الجريمة والأخلاق… مجزرة خان شيخون في عيون الآخر


صفاء مهنا

لم يكن الموت يومًا محطة للشماتة، وإلا فعلى الشامت أن يثبت قدرته على إطالة عمره إلى أبد الآبدين.

أما وقد تعددت أسباب الموت، وكان أحدها القتل، فعندئذ سيكون هناك عشرات، بل مئات، الشامتين؛ لأن القتل يأتي ضمن سياق الأفعال وردّاتها، وهو ما يحصل الآن في سورية.

في إثر كل مجزرة يرتكبها النظام، غير آبه ولا مكترث بأي تداع أو ردات فعل، وهو الذي استخدم الرصاص الحي منذ الصرخة الأولى للمتظاهرين السلميين في درعا، وبدل إظهار بعض التعاطف مع الضحايا، نجد كثيرًا من مؤيدي النظام يتفنّنون في صوغ الشماتة، لا بل يطالبون بمزيد من “الحرق” و”التطهير”.

فبعد مجزرة خان شيخون، في ريف إدلب الجنوبي، قبل عدة أيام، وإنكار جيش النظام استخدام الأسلحة الكيماوية في تلك البلدة، والزعم بأنه لم ولن يستخدمها في أي مكان أو زمان، لا سابقًا ولا مستقبلًا -على حد تعبير بيان جيش النظام- توالت التعليقات من أبناء البلد جيران الأمس، تعليقات لا تمت إلى العقل بصلة، فقد اتهموا الضحايا بأنهم ارتكبوا هذه المجزرة، فهم “كانوا يخزنونها في مستودعات استعدادًا لتصنيع السلاح الكيماوي، وليس غريبًا أن يفعلوا”؛ فهم “قد قتلوا أبناءهم في ما سبق” كما ورد في أحد التعليقات.

هل كانت كل هذه المشاعر هي عبارة عن جمرات تحت الرماد، ما إن أتيحت لها الفرصة لتظهر على السطح؛ حتى استعرت النيران فيها وألهبت من بجوارها.

كتبت إحداهن على صفحتها: “ليت هذا الكلام صحيحًا، لكنا ارتحنا من هؤلاء…”، على الرغم من أن المجزرة صحيحة، وأظهرت وسائل الإعلام العربية والأجنبية صور الضحايا والأطفال يلفظون أنفاسهم الأخيرة. فيما يعتبر شاب أن تلك الضربة “هي كذبة”، يبتدعها الثوار أو “الإرهابيون”، بحسب تعبيره، بعد كل نصر يحققه “الجيش السوري”.

بعد اندلاع الثورة السورية وخروج السوريين إلى الشوارع والساحات، مطالبين بالحرية والكرامة، ظهرت شريحة على الجانب الآخر من الشارع السوري ضد من خرج بالتظاهرات، ومن ثمّ؛ ضد الحرية والكرامة، وليس هذا أمرًا مستغربًا، فلا بد من وجود الآلاف تجعلها تبعيتها العمياء للنظام لا تدرك أن تلك الأصوات تطالب بحريتها أيضًا، بل أكثر من ذلك، فإن تماهيها مع السلطة الدكتاتورية لا تسمح لها بقراءة وتحليل أي مشهد، فهي تلقاءً تضع نفسها في خدمة النظم الدكتاتورية، حتى دون أن تفكر بمصالحها أو المكاسب التي ستجنيها من تطوعها الكامل معها.

لكن مع الأسف، أفرزت السنوات الست من عمر الثورة ضد الطغيان كثيرًا من الحقد، والمغالاة بمشاعر الكراهية والانتقام، وكأن السوريين الأعداء اليوم لم يكونوا يومًا رفقاء دراسة على مقعد واحد، أو جيرانًا يتبادلون لقمة الإخاء والمحبة عبر نوافذهم المتلاصقة في معظم حواري البلاد.

يقول محمد حلمي عبد الوهاب، في كتاب ولاة وأولياء: “يتشكل التماهي بالمتسلط من خلال نماذج ثلاث رئيسة، هي: التماهي بأحكام المتسلط، والتماهي بعدوانه، والتماهي بأسلوب حياته وقيمه العليا”.

هي حقيقة تنطبق على كل أنواع التسلط والاستبداد، إن كان سياسيًا أو اجتماعيًا، أو دينيًا للمشايخ الذين يمارسون السطوة من خلال موقعهم ووجود مريديهم.

إن إنكار الأسد جرائمه، ينعكس عند أتباعه، ليس بتأييد للإنكار وتأكيدًا له، بل يصبح سلوكًا لديهم وفعلًا يعدونه جزءًا من الطاعة والولاء المقدس وليس السياسي، ولهذا يجري القفز فوق المعايير الدينية وحتى الاجتماعية.

عندما تدخلت ميليشيا “حزب الله”، انتشرت صور حسن نصر الله بجوار صور الأسد، ثم مع وضوح التدخل الإيراني، بدأت صور خامنئي تأخذ مكانها، ومع التدخل الروسي أخذ المؤيدون يتماهون مع فلاديمير بوتين، وكل ذلك ليس على حساب الوطن، بما يحتويه، بل على حساب الذات أيضًا، فالانتماء الـ لا وطني يختبئ في شعارات وطنية، يجري حرقها وتحطيم المجتمع.

تستمر أسطوانة التشكيك في المجزرة ذاتها، على الرغم من أن الإعلام الدولي قد ذكر أن عدد الضحايا قارب المئة، بين رجل وامرأة وطفل، ولم يذكر أن الضحايا هم من الأطفال فحسب، لكن مؤيدي النظام سخروا بوضع تساؤل عن “تلك الصدفة التي جعلت الضحايا هم -فقط- من الأطفال”، متسائلين عن عدم وجود “نساء مصابات” بين الصور، غير مكترثين أن في مثل هذه الحال، واحترامًا لتقاليد الناس وأعرافها، لن يظهر الإعلام صور النساء المصابات، للضرورات الإسعافية، ويصيح آخرون بلا أي خجل أو رادع؛ ليقولون: “ليقتلوا جميعًا أولئك الأطفال دون أسف، فهم سيكونون في المستقبل …”.

هذه الأصوات ليست جديدة، أو غريبة الظهور في مثل هذه المجزرة؛ فهي استمرار لأصوات وتصريحات سلبية، وصلت حد البذاءة، صدرت عن أناس يفترض أنهم على درجة من الثقافة والانفتاح، بل كانوا يومًا رموزًا لطالما أحبها السوريون، فكلنا يذكر كيف ناشدت “الفنانة” رغدة سيدها بشار الأسد أن يقصف “الإرهابيين” حتى لو قُتل خلال القصف مدنيون، فما هم إلا متواطئون وحواضن لهم، لتنهي مناشدتها بعبارة: “أما آن للكيماوي أن يستشيط”.

وكان قبلها دريد لحام قد عدّ أن وظيفة الجيش هي النزول إلى الساحات وحماية البلد من “المخربين”، بل شكل الفنانون وفدًا وذهب لشكر السفارة الإيرانية.

لم يتوقع معظم السوريين يومًا أن تصل الحال إلى هذا التدهور في الأخلاق، والانحطاط في القيم لدى كثير من مؤيدي النظام، ولا سيما أن تاريخ سورية لم يحفل باضطرابات جماعية بين مجموعات الناس، وإن كانت تظهر بعض المشكلات هنا أو هناك، فلم تكن تتعدى حدود الحادثة الفردية التي سرعان ما يلملم ذيولها ذوو الواقعين فيها من كل الأطراف.

استمرار النظام بضخ الحقد في قلوب أتباعه نحو بقية أبناء الوطن، دون وقفة تأمل واحدة منهم، والنظر في أحوال جيرانهم الذين أصبحوا ضحايا القتل والتهجير والاعتقال، سيكون من الصعب تجاوزه في سنوات عديدة، وهي التي قد تكون من أهم ما سيواجهه المجتمع السوري بعد سقوط النظام، أي: كيف يمكن القضاء على بذور الحقد تلك، لبناء مجتمع تدافع فيه الناس عن القانون لا الأشخاص.




المصدر