بتداعياتها الاقتصادية والتنموية.. الأسد يرث الخسارة ويطورها إلى كارثة


علاء كيلاني

حين ننظر إلى أعداد المهجرين قسريًا، أو المغتربين، أو النازحين، من المهم أن نتساءل عن سر وراثة سورية خسارة رأسمالها البشري، وعقولها، وكفاياتها، في مرحلتين متتاليتين من حكم عائلة الأسد، بدأت ـ أي الخسارة ـ ظاهرةً مع الأسد الأب، وانتهت إلى حال عامة مع الأسد الابن.

في الشكل، قد تختلف مصطلحات الهجرة تبعًا للدوافع، وفي المضمون، تبدو الحال السورية، عبر تراكماتها منذ عام 1970، فريدة على المستوى العالمي. ففي حين يميل التقييم إلى تصنيف دوافع المهاجرين عمومًا على أنها اقتصادية، وأنهم يبحثون عن المال في معظم الأحوال. يغلب على دوافع التغريبة السورية العامل السياسي. فالذين تركوا بيوتهم، وغادروا بلادهم خلال نصف القرن الأخير، سواء إلى بلدان الخليج العربي أو السعودية، أو دول الجوار، كالأردن ولبنان، إنما كانوا يبحثون في الحقيقة، عن ملاذات توفر لهم العيش المريح الآمن، هربًا من الاستبداد وخنق الحريات، أو الاختفاء القسري أو التعذيب، في مرحلة حافظ الأسد. وهربًا من الصواريخ والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية التي نشرت الموت والدمار على امتداد جغرافية معارضيه في فترة الأسد الابن.

في كلا المرحلتين، خسرت سورية الاستثمار بثروتها البشرية، وأخفقت سياساتها التعويضية، في الاعتماد على بدائل، ليس على مستوى الإنتاجية فحسب، وتطوير أدواتها، ونقل التكنولوجيا إليها. بل على مستوى القطاعات الرئيسة، كالقطاعات الخدمية، أيضًا. ومن ثم؛ فقدت التنمية أهم أدواتها، على الرغم من وجود تحويلات مالية، تضاربت أرقامها، لكنها كانت حتى في فترة الاستقرار النسبي دون المستوى المتوقع رسميًا.

في ثمانينيات القرن الماضي، هربت آلاف العوائل، في إجراء احترازي أو اضطراري، مغبة الاعتقال على الشبهة، أو التعرض لبطش أجهزة الاستخبارات، عشية انفجار الصراع، بين نظام حافظ الأسد وتنظيم الإخوان المسلمين المحظور. كانت الذروة في الفترة الممتدة بين عامي 1980/1983؛ إذ أدى تصاعد العنف السلطوي ضد المدنيين، إلى موجات نزوح بشرية نحو الخارج. ازداد تدفقها من مدن دمشق وحلب وحمص وإدلب وحماة، والبلدات المحيطة بها، في أعقاب المذابح التي ارتكبها الأسد الأب، وكان أبرزها مذبحة حماة في شباط/ فبراير 1982 التي أودت بحياة نحو 40 ألف مدني، أُعدموا عشوائي.

أدت الاضطرابات السياسية، والانهيار المتسارع والمضطرد للأوضاع الأمنية، وخروج الجيش من الثكنات العسكرية وانتشاره في مراكز المدن الآنف ذكرها، علاوة على الحصار الأوروبي والعقوبات التي طالت النظام. ثم تدهور قيمة العوائد المالية، أمام حجم الإنفاق. إلى موجة نزوح ثانية في التسعينيات، قامت بها العمالة المحلية. بدافع تحسين إمكاناتها المادية، وتوفير مدخرات تساعدها على بناء حياة جديدة، بعيدًا عن البؤس والفقر الذي لحق بها، في إثر تفاقم ظاهرة البطالة، وتراجع القوة الشرائية لمداخيل العاملين في القطاعين الحكومي والخاص.

بعد مرور عقد على خطاب القسم الذي حدد بموجبه الأسد الوريث، خطوط سياسته العامة، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق منها بالحريات والديمقراطية والإصلاح الاقتصادي. لم تحقق البلاد أي تقدم يذكر، لا على صعيد الحريات العامة التي تقلصت أكثر بعد خنق ربيع دمشق 2005، ولا على صعيد التنمية والرفاه الاجتماعي والتوزيع العادل للثروة. وجاء نهج اقتصاد السوق الاجتماعي على أنقاض اقتصاد شمولي، لتتسع دائرة الفساد الحكومي، وتزداد معاناة فئات اجتماعية واسعة، غير محمية، وجدت نفسها مهمشة حول مائدة تتقاسمها نخب اقتصادية صاعدة.

في منتصف آذار/ مارس 2011، بدأت الاحتجاجات الشعبية ضد فشل أداء الأسد الابن، تنادي بالحرية والكرامة (العيش الحر الكريم) وعوضًا من تقليم أظافر المؤسسة الأمنية، التي ارتكبت الفظائع بمواجهة المتظاهرين في شوارع وميادين المدن والأرياف، والاستجابة لتطلعات شباب ضاقوا ذرعًا بديماغوجية الخطاب الرسمي، وخداعه، خاصة فيما يتعلق بجوانب الحياة السياسية والاقتصادية. اختار الأسد مواجهة من اعتبرهم خصومه، وقرر التصعيد في خطاب رسمي: إذا أرادوها حربًا، فلتكن.

وباستثناء عدد الضحايا، وخسائر الاقتصاد الكلي، أدت الحرب التي مازال الدكتاتور الابن يشنها، في محصلة غير نهائية، إلى نزوح أكثر من 5 ملايين مواطن، في هجرة قسرية هي الثالثة. لكنها الأخطر، والأضخم. دفعت السوريين، لأول مرّة في تاريخهم الحديث، إلى اجتياز الحدود والاحتماء بمخيمات لجوء خارجية، أو عبور البحار، هربًا من آلة موت، لم يتوقف دورانها طوال السنوات الست التي خلت.

اليوم، تختصر قصة أحمد وأميرة هذه المأساة. فهما زوجان شابان من دمشق، أنقذتهما سفن منظمة أطباء بلا حدود في أيلول/ سبتمبر 2015، مع طفليهما، من قارب خشبي كان يحمل 563 شخصًا، وقبل أن تَعبُر البحر، كابدت أسرة أحمد، أربع سنوات من الحرب، شهدت فيها تساقط البراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات الأسد. ووحشية ميليشياته التي سيطرت على الحي.

وفي هذه الخلفية أكدت تقارير منظمة الهجرة العالمية، بحسب معايير اللجوء، أن أكثر السوريين معرضون لخطر الاضطهاد بسبب تصور ارتباطهم على العموم بأحد أطراف النزاع. وماقد يبدو عنفًا عامًا أو لا يستثني أحدًا، إنما هو في واقع الحال، يستهدف فئات بحد ذاتها، لرأيها السياسي.

وفي السياق ذاته، اعتبرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، معظم السوريين عرضة لخطر الاضطهاد، بسبب اتهامهم بتبني رأي سياسي ما. ويُبنى الاتهام بحسب الجهة التي تفرض أو فرضت سيطرتها على الحي أو القرية أو المدينة التي اعتاد الأشخاص المعنيين على العيش فيها. أو بحسب انتماءاتهم الدينية المرتبطة، أو المتصور ارتباطها بأحد أطراف النِّزاع. وأكثر من ذلك -وفق المصدر- أن هناك ما يتجاوز استهداف المعارضين المعروفين، ذلك أنَّ الرأي السياسي المعارض قد يُنسب أيضًا إلى الارتباط بمجموعة من الأشخاص، ويتضمن ذلك على سبيل المثال أفراد الأسرة. بل على نحو أوسع نطاقًا، يتضمن ذلك أحياء برمتها وقرى ومدنًا ممن تعرضت للاستهداف بسبب الارتباط. وهكذا، شنَّت القوى الحكومية والموالية للحكومة -بحسب المفوضية- حملات عسكرية على مناطق بأكملها، ممن كان مقاتلو المعارضة المسلحة موجودين فيها، أو تلك المناطق التي شهدت مظاهرات مناوئة للحكومة. وغالبًا ما صاحب تلك الحملات إعدامات ميدانية للرجال والنساء والأطفال، واعتقالات جماعية، وسلب ونهب وتدمير الممتلكات.

ورث الأسد الابن عن أبيه خسارة الثروة البشرية بتداعياتها السياسية والاقتصادية، وعمل في السنوات الأخيرة، على زيادة أرقامها لتصبح في عداد الكارثة؛ فبسبب النزوح إلى الخارج وغياب فئة الشباب القادرين على العمل، وهذا من أهم العوامل التي تنهض باقتصادات الدول، فقدت البلد أكثر من نصف طاقتها الفاعلة. وتعرضت مؤشرات التنمية لتآكل وتراجع مستمر وخطِر، منح سورية مقعدًا إلى جانب الصومال على هذا الصعيد.

لم تمتلك النتيجة هذه عنصر المفاجأة، ففي بلد يحكمه الخوف لا القانون، يُقتل الإبداع، وتُنهب الثروات، وتَغيب حقوق الإنسان، وتمتص السلطة دم شعبها، فيهرب الناس أو ينزحوا إلى الخارج، بحثًا عن الحرية والكرامة والأمان.

قبل أن يغادره، خطّ أحد السكان على جدار منزله في مدينة حمص، وسط البلاد، رسالة قال فيها: “عندما أرحل، تأكدوا أنني بذلت كل ما في وسعي لأبقى”.




المصدر