وهم الحل السياسي وغمز “التوما هوك”


جمال الشوفي

اختُتم عام 2016 بقرار أممي في مجلس الأمن، حمل “شبهة” زمنية، فقد عفا ممثلو الدول الأعضاء في مجلس الأمن أنفسهم من احتفاليات رأس السنة، وأصروا على استصدار قرارا في مجلس الأمن، يحمل الرقم 2336 تاريخ 31 كانون الأول/ ديسمبر2016، مفاده وقف الأعمال القتالية في سورية، كيف لا والجاران اللدودان، تركيا وروسيا، هما من رعيا القرار وأخرجا مسودته إلى العالم؛ ما أراح نفوس الفرنسيين والمصريين والنيوزلنديين، وغيرهم ممن أصابهم الفيتو المزدوج الروسي- الصيني في غضون أقل من شهرين، قبلها على وقف الأعمال القتالية في حلب! واليوم، وبعد مرور ثلاثة أشهر بالمشهد السوري، يبدو أن القرار خص سورية في حلب فحسب، أو ربما سورية الثورة اختزلت في حلب، وذلك بحسب اعتقاد الروس أن نصرًا عسكريًا فيها سيلجم قوى الثورة كاملة تحت شعار: إما الفناء والدمار، ومن بعده التهجير لغير رجعة، أو الاستسلام، وتخفيفًا لوطأة هذه الجملة على النفوس، القبول بشروط التفاوض المفروض بقوة السطوة، وفرط القوة العسكرية، وتخلي الداعمين من محور الأصدقاء عن قوى الثورة في لقاءات أستانا الممهدة لجنيف أربعة وخمسة.

في تاريخ المشهد السوري منذ بداية عام 2017، لم تتغير مجريات العمليات العسكرية، بدءًا من عين الفيجة إلى الغوطة الشرقية؛ وصولًا إلى صرخات عبد الحميد اليوسف الذي فقد طفليه وعشرينًا من عائلته في جريمة خان شيخون الكيماوية، وفي السياق ذاته، لم تتوقف العمليات السياسية، بدءًا بأستانا في 23-24 كانون الثاني/ يناير 2017،  بوصفها مفاوضات في ترتيب الواقع العسكري على أرض الواقع وما تلاه من مؤتمرات في ذلك، ومؤتمران في جنيف فاشلان إلى اللحظة، لتأتي صواريخ الـ “توما اهوك” الأميركية فتكمل المشهد، أو تنذر الجميع بضرورة الحل النهائي، كما صرح ترامب لحظتها.

لا تمكن قراءة المشهد السوري بلا المرجعية المباشرة له، وهي المرجعية الروسية في شؤون حله، والروسبوتينية الساعية لتحقيق خطوة واسعة لها في المنظومة العالمية، بعدّها قطبًا ثانيًا منفردًا بحد ذاته؛ ما عكس تمسكها بنصرها الهزيل في حلب واستعجالها الوصول إلى مرجعية بديلة لجنيف بأستانا، بغية تثبيت ما أسماه ألكسندر دوغين بالحلول الجيوسياسية المبنية على عودة المنظومة الأوراسية؛ فقد نظر ألكسندر دوغين، ومن خلال مركز” كاتخيون”، إلى ضرورة فرض حلول سياسية تكسر هيمنة القطب الأميركي الأوحد على العالم، من خلال المحيط الحيوي لروسيا، فدفع بالتنظير للتدخل في أوكرانيا وضم جزر القرم، وشجع إعطاء دور كبير للأكراد في سورية، فالمجال الحيوي لروسيا هو دوائر تتسع من مركزها في موسكو؛ حتى محيطها الحيوي في أوربا الشرقية السابقة ودول آسيا، بما فيها تركيا وإيران في ما أسماه بالهلال الداخلي، ومياه المحيطات، كهلال خارجي في كل من الصين وأميركا اللاتينية. ألكسندر دوغين الذي لم يتبنَّ سياسة شيوعية أو ليبرالية، بقدر تبنيه حلم عودة روسيا دولة كبرى في العالم، في ما أسماه بالجيوبولتيكا وقوانين المدى الكبير، يسكن عقل بوتين وتداعب نظرياته أحلام بوتين قيصرًا “تاريخيًا”، يعيد روسيا قوة كبرى في العالم، كما كان الاتحاد السوفياتي سابقًا. ودوغين ذاته، وهو المنظر الأكبر لفكرة تثبيت الحلول السياسية بعمليات عسكرية على الأرض، بما يتفق مع مقاربات فلسفية لمنطق الجغرافيا والسياسة وعلم التاريخ في علوم الجيوبولتيكا، وهي المرجعية ذاتها التي حاولت روسيا تثبيتها في نهاية عام 2016 بالقرار 2336 بعد حلب في سورية.

أوائل عام 2011 قدمت سياسة باراك أوباما جملة من المؤشرات السياسية لتراجع الدور الأميركي في منطقة الشرق، استطاع الساسة الروس التقاطها بحذاقة، كان أبرزها  تراجع الولايات المتحدة عن قيادة التحالف الدولي في ليبيا، وسحب آخر قواتها من العراق، وتراجع أوباما عن معاقبة النظام السوري لاستخدامه السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية في 21 آب/ اغسطس2013، وتوج ذلك بالاتفاق النووي الأميركي- الإيراني في 14 تموز/ يوليو 2015، فلم تتوانى روسيا بعدئذ عن إعلانها التدخل العسكري المباشر في سورية، بحملة جوية في 31 آب/ أغسطس 2015، أفادت حينذاك بأن مدتها ستسمر أربعة أشهر من تاريخه؛ للقضاء على الإرهاب في سورية، كما ادّعت، والدفع بعملية السلام فيها!

ومع أن روسيا بدت مستفردة بالمسألة السورية لوقت مضى، إلا أن الساسة الروس يدركون مواطن ضعفهم العسكري والتقني والاقتصادي، فعلى الرغم من احتفاظهم بقوة الزر النووي والصواريخ البالستية بعيدة المدى، وأسلحة الدرع الصاروخية الدفاعية S-300 وS-400 التي نشرتها في القرم سابقًا، وحميميم حاليًا، إلا أن نقاط ضعفهم هذه ملحوظة جيدًا أميركيًا، من إسقاط المقاتلة الروسية في بداية حملتها العسكرية بمقاتلة تركية، لحاملة طائراتها الوحيدة كوزينتسوف شبه العجوز العسكري، لصواريخ “توما هوك” غير المنظورة بالرادارات الروسية وأنظمة دفاعها المتطورة، إضافة إلى أنها لم تستطع حسم معركة كحلب -مثلًا- إلا بعد تفاهمهما مع الأتراك على ذلك، ويبدو ذلك أوضح عندما لا تستطيع روسيا أن تزج بقوى برية لها واضحة المعالم في الأرض السورية. فإذا ما أضفنا إلى هذا تضررها المالي من العقوبات الأميركية والأوروبية وركودها الاقتصادي وتقلص احتياطها النقدي، من 91.7 مليار دولار في سبتمبر/ أيلول عام 2014 إلى 32 مليار أواخر 2016، بنسبة 65 في المئة، ومحاولة تعويضها بمبيعات الأسلحة، وفرض الهيمنة الاقتصادية على خطوط نقل الغاز الروسي أو المواقع الحيوية للغاز والبترول السوري ببلطجة المارق عن القانون، فإن مفاتيح الترويض الأميركية للروسبوتينية، وكبح تفردها بالمسألة السورية تبدو مرصودة جيدًا:

– تحجيم القوة العسكرية الروسية من خلال جعلها قوى جوية، ويمكن تجاوزها تقنيًا، فالضغط الأميركي الجديد على إيران، وتهديها المباشر لها قد يؤدي إلى تراجع المد الإيراني بريًا، وهذا ما يجعل الروس بين حدين: حاجتها لهذه القوة البرية، من جانب، وعدم قدرتها على السيطرة عليها -من جانب آخر- كلية، وسيكون التقارب الروسي الأميركي في المسألة الإيرانية التي يصمم عليها ترامب سيف ذا حدين في السياسة الروسية ومداها الجيوبولتيكي القريب بالتعويض البري.

– الفورة البوتينية عززت النزعة القومية لدى دول المنظومة العالمية الرئيسة، وأكثرها وضوحا فوز ترامب المتطرف يمينًا في أميركا، ونمو النزعة الانتخابية ذاتها أوروبيًا، ما قد يؤدي إلى نمو وتعزيز تنامي سياسة الدول القومية الكبرى لتطويق المد الروسي هذا، ما يهدد فعليًا بعودة حرب باردة لن يستطيع الاقتصاد الروسي تحملها لزمن طويل.

– مراهنة الروس على سياسة الأمر الواقع بعد نصر حلب العسكري، واستعجالها لتثبيت وقف إطلاق النار وتثبيت القرار 2336 على أساسه عبر لقاءات أستانا، والخالصة بالعودة لمفاوضات جنيف بمرجعية جنيف 1 إرضاء للجانب الأميركي، هذا إضافة إلى سعيها المتواصل والعمل على زج تيارات سياسية وهمية موالية لها في عملية الحل السياسي للمسألة السورية، تدرك تمامًا أن مرجعيتها على الأرض السورية شعبيًا تكاد تكون ضئيلة، بالقياس على غيرها من قوى الثورة والمعارضة، ما فسر العجلة الروسية بتثبيت الوضع الراهن؛ للاستفادة منه أطول زمن ممكن والمفاوضة من خلاله على موقع عالمي أفضل.

– ويدرك صناع السياسة والأمن القومي الأميركي رغبة روسيا الفعلية في أن تكون شريكًا فعليًا في التحالف الدولي ضد الإرهاب، وتنازع الخارجية الأميركية والبنتاغون أواخر عام 2016 عليه، قد تحسمه مهمة الترويض الأميركية للفورة الروسيبوتينية عبر إعطائها دورًا إقليميا محدودًا، أو الغمز لها بكفاية مغامرتها العسكرية في سورية مقابل الامتيازات السياسية والاقتصادية التي حققتها، فهل كانت صواريخ الـ “توما هوك” هي تلك الغمزة؟ وهل تدركها روسيا؟

سورية بوابة عريضة لطموح بوتين وأحلام دوغين النظرية، لكن كل من بوتين وخلفه دوغين يدرك جيدًا أن سورية بالنسبة إلى روسيا ليست كبغداد بالنسبة إلى الولايات المتحدة 2003، فإذ في مقابل سعي الروسبوتينية لاستثمار المسألة السورية لتثبيت قوتها العالمية، لا يمكن للولايات المتحدة ومنظومة الاتحاد الأوروبي أن تسمح لروسيا بالاستفراد بالحل الروسي كلية في سورية، وهذا ما أوضحته رسائل ترامب الصاروخية، وأيًا تكن مسارات ما بعد 7 نيسان/ أبريل 2017 العسكرية، أو السياسية، فإنها تنذر بوهم الحلول السياسية الممكنة في المسألة السورية، ووهم وقف الأعمال القتالية، والقرار 2336 على رأسها، وربما تشهد الساحة السورية تصعيدًا عسكريًا كبيرًا ، ما لم تدفع الضربة الصاروخية الأميركية هذه بفتح مسار سياسي فعلي للحل السوري، واستقرار المنطقة يقوض الوهم الروسي باستفراده بالحل ووهم نظرية الجيوبولتيكا الدوغينية، ويحد من تدخل إيران المباشر فيها، فإن معادلات القوة وغطرستها ستكون الأوضح، ونبقى نحن السوريين بين خيارين إلى الآن: جدية مسار جنيف السادس سياسيًا، وإسقاط الوهم الروسي والإيراني، أو جدية العمل العسكري المكثف، وتداعياته الكارثية على المتبقي من مدننا وربما مدن عالمية كبرى أيضًا.




المصدر