حلب الشرقية تحت حكم النظام.. أمان مفقود وخدمات معدومة


يُوصد “أبو رياض” مساء كل يوم أبواب ونوافذ منزله، ويمنع أي فردٍ من عائلته من الخروج. يُطفئ أضواء “اللّيدات” المنتشرة في أنحاء غرف المنزل حرصاً على عدم لفت انتباه أحد إلى أن أنهم يعيشون في هذه المنطقة.

“أبو رياض” كغيره من عشرات آلاف السوريين عاد إلى أحياء حلب الشرقية بعد سيطرة نظام الأسد والميليشيات الموالية لها عليها، لكن  المدينة قبل الخروج منها ليست كما هي اليوم تحت حكم الميليشيات.

يقول الرجل الطاعن في السن لـ صدى الشام: “لا يوجد شيء سوى الأبنية المدمّرة التي يبعث شكلها على الرعب ليلاً، ورشقات رصاصٍ تُسمع هنا وهناك، وهي قد تكون ناتجةً عن حوادث اغتيالٍ أو محاولات نهبٍ وسرقة.

 

بعد أكثر من ثلاثة أشهر

غادر آخر مقاتل من مقاتلي المعارضة أحياء حلب الشرقية في 22 كانون الأول من عام 2016 الماضي، ثم دخل النظام إلى هذه الأحياء، متوعّداً بأنه سوف يُعيد شروط الحياة الطبيعية إلى تلك الأحياء.

لكن وبعد حوالي ثلاثة أشهر ونصف من سيطرته على المدينة لا يزال الدمار سيّد الموقف، فلا خدمات تُذكر للعائدين، ولا إعادة إعمار للمنشآت الرئيسية التي دمّرتها طائرات النظام والمقاتلات الروسية. ما تغيّر هو أن ركام المدينة المدمّرة امتلأ بصور بشار الأسد من جهة، ومن جهةٍ أخرى بات جزء المدينة الشرقي أو ما بقي منه مسرحاً لعمليات النهب والسلب والسرقة والتصفية على أثاث الثأر ومرتعاً لسلطة الميليشيات الطائفية والمحلية.

“أم وسيم” امرأة ستينية كانت من ضمن العائدين إلى المدينة مع بناتها الأربعة. توفي زوجها عندما كانت نازحةً في الجزء الغربي لمدينة حلب، تقول لـ صدى الشام: “أرى أن لدى الأشخاص الذين لم يعودوا إلى حلب حتى الآن مبرر مقنع”، وبعد أن عادت بسبب عدم وجود ملاذ تأوي إليه مع أسرتها وجدت “أم وسيم” أن معظم أحياء المدينة غير صالحة للعيش، والأمان فيها معدوم، وسط ارتفاع مستوى الجريمة، كما أنه لا يوجد أي خدمات تُذكر للعائدين، فالبلدية قامت بفتح الطرقات فقط وتركت الأبنية المدمّرة على ما هي عليه، ولم تقم حتى بترحيل الركام.

 

 

تصفية وتعفيش

في الثالث عشر من شهر كانون الثاني الماضي عثر الأهالي على جثث ثلاثة عناصر من “الشرطة العسكرية الروسية” كانوا قد قُتلوا في ظروفٍ غامضة، فيما توجّهت أصابع الاتهام بحسب ناشطين إلى عناصر من ميليشيا “الباقر” التي تشكّل عشيرة البقّارة أحد أبرز قيادييها.

وتأتي هذه الحادثة ضمن عمليات تصفيةٍ ونهبٍ وسلب تجري في أحياء المدينة بكلٍ دوري، في ظل غياب أي دور أمني لنظام الأسد الذي سلّم المدينة للميليشيات الطائفية.

جمعت “صدى الشام” شهاداتٍ من مواطنين عادوا إلى المدينة حول الوضع الأمني داخلها. ومنها ما ذكره هشام، 37 عاماً، وهو أحد المدنيين العائدين إلى حي الميسّر بالمدينة. يقول هشام: “عقب عودتنا إلى منزلنا في حي الفردوس، وجدنا مقاتلين تابعين لنظام الأسد يقومون بتفريغ منزلنا من محتوياته أمام أعيننا”.

ويضيف أنه لم يتجرّأ على الاقتراب منهم أو منعهم، لافتاً إلى أن أقربائه أخبروه أن أحد سكّان المدينة الذي حاول منعهم من سرقة منزله فقاموا باقتياده إلى جهةٍ مجهولة، وأوضح أن ما هو جديد في “التعفيش” داخل مدينة حلب أنه كان أمام مرأى ومسمع السكّان وأصحاب المنازل، بعد أن جرت العادة بتفريغ المنطقة من سكّانها ثم تعفيشها، لافتاً إلى أن التعفيش طال المباني والمرافق العامة التي تضرّرت من القصف سابقاً.

هذا الأمر أدّى إلى توقيف الإعلامي الموالي للأسد ومراسل قناة الميادين رضا الباشا، الذي اتخذ النظام قراراً بتجميد عمله بسبب كشفه أن شرق حلب أصبح أسوأ بكثير بعد أن سيطرت عليه قوات النظام والميليشيات الموالية له.

وتحدّث الباشا في سلسلة تدوينات عن ارتفاع معدل جرائم القتل في أحياء حلب الشرقية، وازدياد نسبة الجرائم عموماً ثلاثة أضعاف عما ما كانت عليه قبل سيطرة تلك القوات، موضحاً أن حواجز للميليشيات تختطف المدنيين، وميليشيات أخرى تتاجر بأدوية وجدتها في أحياء حلب الشرقية وتمنع الأدوية من دخول حلب قبل نفاد الكميات التي لديها.

وكتب رضا في مقالٍ له على موقع “الميادين” بعنوان “طريق حلب حواجز طريق الحرير”:إن كارثة منع إدخال الدواء إلى حلب استمرّت من قبل الحواجز”، ونقل عن أحد المسؤولين الأمنيين قوله إنه “إلى جانب مخازن الأدوية يدخل في الملف شركات أدوية جديدة الترخيص لأحد المسؤولين حصة كبيرة فيها، حيث تبحث هذه الشركات عن إيجاد سوق لها في حلب. والسبيل إلى ذلك منع دخول أدوية الشركات الحلبية إلى المدينة”.

 

دعاية

لجأ النظام إلى الأحياء الأقل تضرّراً ليقوم ببعض حملات إعادة التأهيل داخلها لإعطاء انطباع بأنه يقوم بترميم المدينة بعد أن دمّرها، ففي مدينة حلب ثمّة أحياء لم يطالها إلّا قليل من الدمار، فيما ثمّة أحياء أخرى سُوّيت بالأرض، فما كان من النظام إلا أن ألغى من حساباته ما تم تدميره واتجه نحو الأحياء غير المدمّرة ليروّج لنفسه على أنه من قام بإعمارها.

ووفقاً لإحصاءات وسائل إعلام مقرّبة من النظام فإن عدد السكّان العائدين لا يتجاوز 250 ألف مدنياً، وذلك من أصل أكثر من 2 مليون كانوا يعيشون في هذه الأحياء، أي أن ما لا يزيد عن 10% من سكّان المدينة فقط هم من عادوا.

ويمثّل هؤلاء العائدون إلى أحيائهم شريحتين: الأولى ممّن لم تتدمّر أحياؤهم بشكلٍ كامل خلال هجمات النظام وروسيا، والثانية تمثل الأشخاص الذين ليس لديهم أي بديل وكانوا يعيشون طيلة السنوات الأربع الماضية في خيمٍ قرب المتحلّق في مدينة حلب.

ولا تقل نسبة الدمار في مدينة حلب عن 70% غير أن بعض الأحياء نالت النصيب الأقل من هذا الدمار، وأبرزها “مساكن هنانو، مساكن عين التل، سيف الدولة، الفردوس وأجزاء من حلب القديمة”.

أحمد صغير، هو أحد السكّان العائدين إلى المدينة، يقول لـ صدى الشام: “إن مداخل مدينة حلب كانت مرمّمة بشكلٍ جيد، وفيها معظم الخدمات ووسائل إعلام تواكب الحدث، لكن ما هو في عمق الأحياء يختلف عما يتم بثّه عبر القنوات”، لافتاً إلى أن الأحياء الشرقية غير جاهزة للحياة.

 

 

خيبة كبيرة

 على الرغم من أن المدينة شبه فارغة، وأن البُنى التحتية لا زالت مدمّرة ومستوى الجريمة ارتفع في هذه الأحياء بشكلٍ كبير، إلّا أن الأمر يزداد سوءاً مع انعدام معظم الخدمات داخل الحي، حتى بات كالجُزر النائية لا يحتوي على أي مقومات الحياة، فلا مياه ولا كهرباء ولا شبكة إنترنت ولا مواد غذائية تُذكر.

وتسبّب هذا الأمر بخيبة كبيرة لدى آلاف المدنيين الذين عاد قسم كبير منهم أدراجه من حيث أتى.

يقول أبو زياد، وهو من سكّان حي قاضي عسكر: “نقوم بنقل المياه من الأحياء الغربية عبر الصهاريج، كما نشتري الوقود أيضاً من هناك من أجل تشغيل المولدات للحصول على كهرباء، إضافةً إلى أن الاتصال منقطع تماماً في معظم مناطق المدينة”.

ويضيف أبو زياد : “المسجد الذي في الحي دُمّر بشكلٍ كامل بغارات الطيران، ومعظم المرافق العامة وبيوت المدنيين سوُيت بالأرض”، لافتاً إلى معظم المدنيين الذين عادوا يعلمون جيداً أن هذه الأحياء غير صالحة للعيش الآدمي حالياً، لكنهم قدموا إليها بسبب عدم وجود ملاذٍ آخر يؤون إليه.

حاولنا المقارنة بين أحياء المدينة فيما يخص الخدمات، فتبيّن لدينا أن الأحياء التي عمل النظام على تسويق نفسه داخلها بأنه يقوم بإعادة تأهيلها حصلت على نصيبٍ لا بأس به من الخدمات المختلفة الأساسية، وأبرزها حي مساكن هنانو الذي حظي بالتيار الكهرباء لعدد من الساعات يومياً إضافةً لتوفر الوقود والمياه وشبكة الاتصالات والإنترنت، وهو أمر يرجح فكرة أن النظام عمل منذ سيطرته على الجزء الشرقي للمدينة على اختيار أحياء لم تطالها المعارك كثيراً، لاعتمادها كنموذج عن شرق حلب، في حين تبقى بقيّة الأحياء الأخرى بلا خدمات.

 

لا مرافق عامة

على الرغم من أنه عاد إلى الأحياء الشرقية في حلب منذ أكثر من أربع أشهر، إلى أنَّ مراد لم يتمكّن حتى الآن من تسجيل ولديه الاثنين في المدارس حتى الآن.

يشرح مراد لـ صدى الشام أنه عاد إلى الجزء الشرقي في المدينة بعد أن كان نازحاً في محافظة اللاذقية قائلاً: “عندما هدأت المعارك عدتُ إلى منزلي لأنني أعرف أنه المأوى الأكثر أماناً لعائلتي كون النزوح كان مرحلة مقتطعة من حياتي ولم أتمكّن من صنع شيء خلال سنوات وجودي في اللاذقية”.

ويبيّن أنه قام بتأهيل الدمار الذي حلَّ ببيته في حي مساكن عين التل بما توفّر من أدوات بسيطة بغية العودة لممارسة حياته الطبيعية، لكنه صُدم بأن المنطقة لا يوجد بها لا مدارس ولا مشافي ولا مرافق عامة ولا أي نوع من الخدمات، لافتاً إلى أنه يصعب عليه أن يرسل أولاده يومياً إلى الأحياء الغربية البعيدة ليتمكّنوا من إتمام تحصيلهم الدراسي.

دمّر الطيران الحربي التابع للنظام وروسيا معظم منشآت المدينة بدايةً من المدارس مروراً بالمشافي وليس انتهاءاً بالمرافق الصحية ومؤسسات الخدمات الحكومية، وذلك طيلة 4 سنوات من القصف على أحياء المدينة، فيما تعرّضت مرافق أخرى أساسية للحرق بشكلٍ كامل.

المشكلة لا تتوقّف هنا وحسب، فبحسب شهادات سكّان هناك، فإن المنشآت والمصانع والمدارس التي لم تتعرّض للقصف أو التدمير، تحوّلت إلى مقراتٍ وغرف عمليات أمنية للميليشيات المحلية والأجنبية التي شاركت النظام باقتحام المدينة، وحصلت على مكافأتها بإدارة المدينة، وظلّ الخاسر الأكبر هو المدنيون.

 

غلاء فاحش

وسط زحمة المشاكل الكبيرة التي تعاني منها المدينة، فإن مشكلة تأمين السلع وارتفاع أسعارها بشكلٍ فاحش طغت على الحالة الأمنية وغيرها من الأمور وبات الهاجس الأكبر للأهالي.

وبحسب ما رصدت صدى الشام فإن سعر صهريج المياه 1000 ليتر بلغ  25 ألف ليرة مع أجرة نقله، في حين بلغت اجرة الكهرباء عبر الأمبير 3 آلاف ليرة للأمبير الواحد أسبوعياً، على أن يتم تشغيلها 7 ساعات يومياً من السادسة مساءاً حتى الواحدة ليلاً، فيما قفزت معظم أسعار المواد الغذائية والسلع الأخرى، الأمر الذي جعل المواطنين يلجؤون إلى التسوّق من أماكن أخرى في حلب.



صدى الشام