شعراء الألفية الثالثة والعالمِ الأزرق
11 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017
قصي زهر الدين
احتفلَ العالم أجمع -منذ أيام- بيوم الشعر العالمي، لذلك -ومن خلال منبرنا الثقافي “جيرون”- أردنا أن نُلقي القارئ في شركِ الشّعرِ السوري من خلال الكشفِ عن بعض جوانبه القديمةِ منها والحديثة، وتسليط مساحةٍ من الضوء على كينونته، لكن لابدّ أولًا من المرور السريع على تاريخ سورية الفني -بعامة- والشعري بخاصة.
تشكلت، في تاريخ سورية الذي يمتد آلاف السنين، أطياف متعددة من الأدب، تَمثّل ذلك قديمًا في نصوص تأملية، وأساطير تتعلق بالطوفان وخلق العالم، وهذا ما وُجد في ماري وإيبلا، حيثُ ذُكر اسم الكاتب السوري الساخر لوقيانوس، وظهرت فيها أول أبجدية في العالم، ولا تزال تنفرد بوجود أقدم لغة مستعملة «الآرامية»، وقد حملت الأيقونات المكتشفة في القرن العشرين، قصصًا وأشعارًا وأساطير متنوعة، مثل أسطورة دونيزيوس والخمر، وأسطورة جيو والفصول الأربعة.
وخلالَ العصر الأموي الذي حملت دمشقُ مناراتهِ للعالمِ أجمع، نشطت حركةُ الأدبِ والفنون والعلم والشعر، على وجهِ الخصوص، فبرزت أسماءٌ كثيرةٌ تُوزّع ضوؤها في التاريخِ وفي الألسن، كجرير والفرزدق والأخطل وغيرهم، إضافة إلى أنّ هذه الحركة الأدبية العظيمة، كانت نواةً لحضارةٍ لن تنتهي في الأندلس.
لن نطيلَ التّوقفَ هنا؛ فالبحث في عشرةٍ آلافِ عامٍ من الحضارة لا تسعه مئات الصفحات.
بدأت قصيدة النثر في سورية تأخذ شكلها منتصف القرن العشرين على يد محمد الماغوط في ديوانه “حزن في ضوء القمر”؛ ليلتحق به بعدئذ صديقه ورفيق دربه أدونيس، بعد أن انتقل من شعر التفعيلة والشعر العمودي إلى قصيدة النثر أيضًا. وفي أوائل السبعينيات شهد القرن المنصرم ثورة شعرية عارمة -إن صح القول- فلمعت أسماء سوريّة، شيدت لهذه القصيدة قلعةً صلبةً وقفت جيدًا في وجه رياح النقد، وأقصد بالنقد هنا: النقد الكلاسيكي الذي يكاد لا يعترف، إلى يومنا هذا، بقصيدة النثر وكينونتها المستجدّة. ومن الأسماء التي لابدّ من ذكرها، وليس على سبيل الحصر، سليم بركات الشاعر السوري الكردي، صاحب اللغة المدهشة والأسلوب الذي استأنس به عدد كبير من شعراء الحداثة فيما بعد، كما انضم -أيضًا- إلى كوكبة شعراء النثر رياض الصالح الحسين ومنذر مصري وعادل محمود، وكثيرون غيرهم استطاعوا أن يتركوا بصماتٍ عميقةٍ في بناء القصيدة، من حيث شكلها وإيقاعها ومضمونها.
برز في بداية الألفية الثالثة عدد من الشعراء الشباب، كان التشتت العنوان الأبرز لحراكهم الثقافي الشعري، إذ ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم يتخبطون بين ميراثِ الماضي، أو ما تركه الشعراء السالفين من أثرٍ شعري، وما يريدون تقديمه شعراء منفردين، فمنهم من وجد حبلًا يتمسك بهِ، كي ينجو من محنة الوقوع في الشبه، الذي على ما يبدو لا بد من الوقوع في شباكه، وآخرون بحثوا ضمن هذا الميراثِ عن هويتهم الضالة، فسقطوا في شركِ الهوية، وأيّ شركٍ أن تبحثَ عن هويتك/ صوتك/ انتماءك الفكري والثقافي، ضمن هذا الزحامِ من تداخلِ الثقافات.
ثم ماذا؟
عصفت الحربُ بكلّ شيء وطالت أنيابها جسد الشعر المادي والمعنوي، على حدٍ سواء، ليجد الشعراء أنفسهم في دوامةٍ من الفقدِ والتهجير والموت والكارثة. هكذا راحوا يرصدونَ المشهد بعينِ الشعر، فتحولت قصيدتهم -لا إراديًا- من قصيدةٍ تحاكي الجمالَ والهمّ المنقولَ من يدِ السلفِ إلى يد الخلف، إلى قصيدةٍ مصبوغة بالدمِ، حاملها الأول الفقد، فوقعوا جميعًا في شركِ الحزنِ القديمِ ذاتهِ، الحزن الذي لا لون له أو رائحة سوى ما يستطيعه الشعرُ من نحتٍ فنيٍّ في جسده/ جسد الحزن.
حزنٌ فني: هذا ما خلُص إليه شعراء سورية المحمّلين قسرًا بأدواتِ الحرب، فتصدرت شعرهم أمشاطُ الرصاصِ يعلقونها على أعناقِ حبيباتهم، بدلًا من الورد، والقيد بدلًا من السماء، والمسافةَ بدلًا من العناق. فأصبحتِ السيّارةُ أداةً للقتل، والبحرُ ماءٌ للقتل، والسفرُ سماءٌ للقتل، والغربة غرفةٌ رطبةٌ للموتِ البطيء.
هكذا رسم الشّعرُ صرخاتهم المكتوبة، وكأنه هو الذي يقودُ المعنى إلى سرير الكاتب وصحوه، لا العكس، ليصبح الكاتبُ أداةً طيّعةً ليدِ الشعرِ المجروحةِ، فنرى الشعرَ أخيرًا يتوزّع نُدبًا حارّةً تتقاسمها الخرائط، ليجدَ الشاعرُ نفسه رهينَ قضبان السياسة، الشاعر الذي كان من الأجدرِ به أن يكون فيلسوفًا.
ثم ما لبث الشعراء أن وجدوا أنفسهم يقفون صفًّا لا متناهيًا أمامَ شاشاتِ ومرايا صفحات التواصل الاجتماعي، وأبرزها مرآة الـ “فيس بوك” وكأنه الشرفةُ الوحيدةُ التي لم يصلها الدمارُ بعد، فتجمع الشعراء على رخامها، يطلقونَ صوتهم غيرَ مدركين مخاطرَ هذا المنبر عليهم وعلى جسد الشعر، إذ لا بدّ من القول: إنّ أخطرَ ما يواجه الشعرَ المنبرُ الدائم، المنبرُ السهل الذي لا رقيب عليهِ أو فيه، فاختلطَ الشعر الرديء بالجيّد منه، ليتوسلّ بعضُ الشعراءِ التصفيقَ المجاني والجمهرةَ السريعة، أمام شرفاتهم الافتراضية، يحملونَ هموم مدنهم وقراهم ترابًا ينسلّ بين أصابعهم.
هذا العالم الجديد -إن صح القول- الذي مازال يستنزف أرواح الشعراءِ على جدرانه، كان سببًا أولًا ورئيسًا في تسليطِ ضوئه على شخوص، لم يمتلكوا بعد أدوات الشعر، فلمعت بالتالي أسماؤهم كنجومٍ ليخفتَ نجم الشعر ذاته، ومن خلال ما قدموه من شعرٍ سيئ استطاعوا صوغ تعريفٍ سهلٍ للشعر أمام الجماهير لا القرّاء، الشعر الذي لم يستطعه التعريفُ يومًا.
وعلى الضفةِ الأخرى والنقيضة كان لهذا الافتراضِ الأزرق أن ألقى ضوءه –أيضًا- على شعراء متمكنين لم يسعفهم الحظّ أن ينشروا أصواتهم في دواوين ورقية، فملؤوا صفحاتهِ بالشعر الجيد، درعًا في مواجهةٍ غير عادلة أمام انتشار حمّى النصوص الرديئة، ومنهم على سبيل الذِكر لا الحصر مرح مجارسة، وسوزان علي، وأحمد بغدادي، وكثيرون غيرهم مازالوا يشهرون سلاحَ الكلمة كنصلٍ لامعٍ لا بدّ من أن يمتدّ إلى عشرةِ آلافِ عامٍ في عمقِ الحضارة التي اسمها سورية.
[sociallocker] [/sociallocker]