الأدب فسحة تتيح للكينونة أن تضيء العالم
13 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017
غسان ناصر
- السُّوريون انتفضوا لتأسيس عالم مفتوح على الجمال والحريّة والاختلاف
يتهيأ الكاتب والناقد السوري الدكتور خالد حسين، بعد أربعة كتب نقدية، لإصدار دراسة خامسها بعنوان «لعبة العلامات: تضاريس، متاهات وتناصات»، إضافة إلى نص سيري بعنوان: «شجيرات الكلندور: سيرة سرديّة»، سيرى النور قريبًا. وللحديث عنهما وعن مشروعه النَّقديّ ذي البناء الشِّعري/ الجمالي، كان لنا معه هذا الحوار:
- بداية أسألك عن آخر عمل صدر لك، وما الذي تهجس به على صعيد الكتابة، وأنت تتابع يوميًا تفجُّر الحدث السُّوري؟
«اقترافات التأويل: مقاربات في الشِّعر والنَّقد»، هو آخر كتاب نُشر لي، كنت قد أنجزته في دمشق قبل الرحيل عنها، والكتاب استمرار لاستكشاف عوالم “العلامات” الأدبيّة والتحرُّك في تضاريسها الدلالية. في واقع الحال انتهيت منذ مدة من مخطوط جديد بعنوان: «لعبة العلامات: تضاريس، متاهات وتناصات»، ربّما سيرى النور في الأشهر المقبلة، وتتشكل جغرافيته من قراءات قديمة وأخرى جديدة. حاليًا أعكف على قراءة قصيد «سوريا» للشاعر سليم بركات، بعدّه شكلًا من أشكال التنادي العنيف بين الكتابة وتفجُّرات الوضع السُّوري، ومواجهة نصٍّ شعريٍّ يستوطن العَماء بهذه القوة، يحرّضني أكثر على الكتابة النَّقديّة العميقة، وهذه سمة النُّصوص المفارقة في الكشف والاقتراب من كينونة الذات في علاقتها بالعالم.
- «شجيرات الكلندور: سيرة سرديّة»، عنوان نص سيَري تعمل فيه منذ زمن، متى سيرى النور وكيف تقدمه لنا؟
هكذا ترنُّ الكلمة الكردية “الكلندور” في ذاكرتي كرنين و/ أو كصدى لا ينتهي، الكلمة التي تناديني، الكلمة التي تدعوني إلى ضرورة النقش، كلمة تَسْلبني من راهن اللحظة إلى أيام الطفولة في تلك القرية البعيدة (جنوبي شرقي الجزيرة)؛ حيث تعايش الكرد والعرب في فضائها الصَّغير بوئام. “الكلندور” شجيرة شوكية تنمو عند تخوم الحدود الفاصلة بين أراضي الأهالي، أشعر أنها النُّواة التي تلتفُّ على ذكرياتي، حيث تستوطن سيرتي البسيطة وتغفو هناك بين وريقاتها. في الحقيقة أتقدم بطيئًا في الكتابة، أهرب من الكتابة الشِّعرية، لكنني لا أمتلك جَلَدَ من يمتهن السَّرد؛ لذلك أحيانًا أنقشُ جملةً، عدة أسطر قليلة وأتوقف، الكتابة الأدبيّة تحتاج إلى شكيمةٍ الاستمرار التي أفتقدها للأسف. أتمنى للذكريات أن تستيقظ لكي تورق “الكلندور” وتضيء حيوات ذلك الطِّفل، الصّبي وهو يطارد مع أصدقاء الطفولة سراب الجنوب وغمام الغرب، أتمنى أن أنتهي قريبًا.
- هل لديك حدود فاصلة بين كتابتك الأدبيّة الإبداعيّة والنَّقديّة؟
عملية الكتابة لديَّ تتحرّك في إطار جنس المكتوب؛ لكنها تفيض على حوافّه، لا كتابة تلتزم بحدود النوع، غالبًا ما تكون الحدود منتهكة، فلابدَّ أن تفيض الكتابة على هذه الحدود وتقوّضها؛ لتحوز بعدًا من أبعاد الكتابة الإبداعيّة. أجد حريّتي في فضاءات النَّقد، لكنني أفتح الحدود بين لغات النَّقد، الشِّعر، الفلسفة؛ ليحدث ذلك التنادي/ التناص بين هذه اللغات، هنا تغدو “الكتابة النَّقديّة” برسم الإقامة على التخوم، وربما كتاب: «شؤون العلامات: من التشفير إلى التأويل» مثال على اللعب بين التخوم، فقد كتبتُ مواده بروح الناقد- الشاعر. وفي كتاب: «في نظرية العنوان» كان أسلوب الكتابة ينتظم في بنيات استعارية عنيفة فاجأتني بعدئذ.
النهوض السُّوري على أرضيات التبابن
- ما تقييمكم للحالة الثقافيّة السُّوريّة اليوم وثورة شعبك تدخل عامها السابع؟ وهل ارتقى في رأيك النتاج الأدبيّ السُّوري إلى مستوى هذا الجحيم الأرضي؟ وما مآل السَّرديّة السُّوريّة؟
سؤال مركّب؛ ينفتحُ على صعوباتٍ كبيرة في ما يتعلق بتقييم الحالة الثقافية السُّوريّة، فهي من الشساعة ما لا يستطيع المرء محاصرتها والحكم على إنتاجها؛ وأعتقد –جازمًا- بأنَّ التقييم سابق لأوانه وإنتاج ممارسات أدبيّة – ثقافيّة ناضجة يحتاج إلى وقتٍ، ثم إن الأدب ليس تسجيلًا بقدر ما هو شقٌّ، فسحةُ نور تتيح للكينونة أن تتفتَّح، ومع ذلك ثمة نهوض نصيٌّ يتصاعد مع هدير “الحريّة”؛ أذكر على صعيد الممارسة الشِّعرية قصيد: «سوريا» لسليم بركات الذي يحتاج إلى تأنٍ في القراءة النَّقديّة. وعلى الصعيد السَّردي – يمكن أن أضرب مثالين: أحدهما –أيضًا- لسليم بركات، وأقصد رواية «سبايا سنجار»؛ فالرواية تقرأ مأساة اليزيديين الكرد في سياق ما حدث في سورية. أما المثال الثاني فيمكن التمثيل له برواية «عين الشرق» لإبراهيم الجبين الذي ينجح -في تصوري- في تبئير دمشق فضاء للرواية، ثم قراءة ماضي دمشق وراهنها بإيقاع سردي سريع وعال. بالطبع وكما قلت ليس من السهولة بمكان الإحاطة بمجمل الإنتاج الأدبيّ السُّوري؛ ولا سيما أنَّ المطبوعات العربيّة لا تقع بين يدي هنا في سويسرا، لكن أعتقد أنَّ ثمة نصوصًا مهمة ظهرت، ولكنها تحتاج إلى القراءة النَّقديّة.
- كيف ترى المُنجَز الروائي السُّوري اليوم، من حيث الأسلوب واللغة وبنية وحداثة النَّص والرؤى والمقاربة للواقع؟ وهل من الترف الانشغال بالشرط الجمالي للنص في زمن المذبحة وأنهار الدّم؟
أظن سؤالك على ارتباط بسابقه، وكما أشرت، يصعب الحكم –نقديًا- على المنجز الروائي من خلال رواية أو روايتين، ولا أستطيع ادعاء ذلك في هذه الأوضاع الصعبة… إلخ. لكنني أعتقد أن الروائيَّ السُّوري بات يحيط بشروط العمل الروائي (من خلال الروايات القليلة التي قرأتها)، ولكن لا يمكن للعمل الروائي أن يصعد ويحوز على القراءة، مالم يتوفر على بصمة خاصة، على توقيع خاصٍّ؛ أقصد على أسلوبيةٍ تفاجئ القارئ من حيث بنيات الرواية المختلفة. بالنسبة إلي: الشرطُ الجماليُّ ليس عاملًا طارئًا ليتخلى عنه النَّاصُّ، وتحت أية ظروف وضغوط وتراجيديات، فالسُّوريون انتفضوا لتأسيس كينونة أصيلةٍ، لتأسيس عالم مفتوح على الجمال والحريّة والاختلاف، عالمٌ يتيح “للجمال” أن يكون، ولا يمكن لعمل فني إلا أن يتوسل الوظيفة الجمالية بكل قوة ليبتكر ويكتشف فائض القوة والتحدي والجمال لدى السُّوريين، ضدًا على القباحة التي حوّلت بلدهم إلى فضاء للعبودية. ومن هنا فانتفاضة السُّوريين هي من أجل التباين والاختلاف والمغايرة، ولذلك لابدَّ من ممارسات فنية تنهض على أرضيات التباين عاملًا مفارقًا للجمال الأدبيّ.
- إلى أي مدى يمكن أن يسهم الالتزام السياسي بفكر أو قضية ما، من الناحيّة الجمالية أو الفنيّة للعمل الإبداعي، ولا سيما أن هناك نقادًا يرون أن “النَّص السُّوري” نص مباشر وانفعالي؟
الالتزام السياسي بالمعنى الضيق إبان هيمنة الماركسيات المبتذلة لم تَقُدْ إلا إلى ممارسات أدبيّة- خطابيّة فجّة وسطحية؛ لأنها لم تكن سوى حامل لأيديولوجيا شمولية سحقت كينونة الكائن الإنساني، وزيّفت حياته وزمنه وتاريخه. بالنسبة إلي لا مساومة على “البنية الجمالية” التي وحدها يمكن أن تفسح الفضاء لكينونة أصيلة بالحضور والانتشار والإضاءة. أما في ما يتعلق بالنُّصوص السُّوريّة، من حيث طابعها المباشر والانفعالي؛ فأعتقد أن قوة الحدث والمأساة التي رافقته بسبب همجية الـ “لا نظام” السياسي واستغاثته بقوة إقليمية تنهض من صدوع التاريخ الطائفي الأعمى، لإعادة ظلال امبراطورية لفظها تاريخ المنطقة، أو قوة عالمية تنطلق في أصلها وفصلها من الـ “لا إنساني”، لتستعيد مجدًا زائفًا في يومٍ ما، إزاء كلِّ هذا يمكن أن يهيمن الانفعال على وظائف النص الأدبيّ راهنًا، لكن العمل الأدبيّ، بوصفه ذلك “الحدث الفريد”، سيأتي لامحالة، حدثًا أدبيًا يليق برغبة السُّوريين في إنجاز الاختلاف والتباعد والمغايرة.
تراجيديا الخلاص من “مضيق الأبد الأسدي”
- في الحال السُّوريّة هل يمكننا الحديث اليوم عما يسمى بـ “أدب المنفى” أو “أدب اللجوء”؟
التراجيديا السُّوريّة قلما تتكّرر؛ كتلة بشرية تتطلع إلى إحداث نقلةٍ مجتمعيةٍ إلى فضاء “الحريّة”، علامةً على الخروج من “مضيق الأبد الأسدي” الذي حُشِرَ فيه السُّوريون طوال نصف قرن من حكم يستمدُّ نسغه من طائفية مقيتة وأكاذيب “الممانعة والمقاومة”، إزاء هذا التّحدي عمد الـ “لا نظام” إلى همجية، الغاية منها اجتثاث كينونة الشعب السُّوري، فكانت التغريبة الأصعب في التاريخ الحديث والرّاهن، ومن المنطقي أن ينهض أدبٌ سوريٌّ، ولاشكّ في أن ثمة أدباء سوريين؛ حتى قبل الأحداث، أسسوا لأدب اللجوء والمنفى: رفيق شامي (يكتب بالألمانية)، سليم بركات، نوري الجراح…إلخ. وراهنًا أتابع كثيرًا من النّصوص التي تعبر عن الغربة بكل قسوتها، وفي هذا الإطار تمكنني الإشارة إلى رواية هوشنك أوسي الصادرة حديثًا «وطأة اليقين.. محنة السؤال وشهوة الخيال»، إنها تصبُّ في مجرى أدب المنفى جملةً وتفصيلًا. أتمنى ألا يستمر حال السُّوريين، فالمنفى القسري يقتل الإبداع بعكس المنفى الاختياري الذي يحدث رغبةً في تجاوز الذات.
- هل لنا أن نتحدث -الآن- عن خصوصيّة في الشِّعر السُّوري المعاصر، وما المعايير التي تجعل قصيدة ما قصيدة سُّوريّة؟
تضعُني قاب قوسين أو أدنى من الهروب من سؤالك، في الحقيقة أنا مشدود إلى الشِّعر، إلى القصيدة، القصيدة بوصفها المأوى الأصيل للكينونة. ومن أيام قليلة قرأت ملفًا عن “الشِّعر السُّوري في الشتات”، وعلّقتُ عليه مطولًا، وأعتقد أن الخصوصيّة تنمو مع القصيدة التي تصنع اختلافها، وعلى تخوم هذا الاختلاف تنهض الغرابة، وينهض معها عالم مفارق، هنا –تحديدًا- يمكن الحديث على الخصوصية، من حيث إنَّ الخصوصية ذات طابع فرديِّ محض، أي لها علاقة بالشاعر وطرائقه في الاشتغال باللغة وفيها ومعها وعلاقاتها بالعالم، الخصوصيّة شأنٌ فرديٌّ، ويمكن أن يلمس المرء خصوصيّة ما لفضاء محدّد، خلال اختلاق هذا المكان بتاريخه، وكينوناته، ونباتاته وإرثه تحت ضغوط المخيِّلة الشِّعرية، أي إن ما هو عامٌّ يغدو ثانية في حوزة الخاصّ، في قصيد سليم بركات «سوريا» 2015، لا يمكن تخيَّل شاعر غير سوريٍّ يكتب هذه القصيدة! كلُّ علامةٍ من علاماتها، بدءًا بالعنوان؛ وحتى النهاية النَّصية، يشي بفضاء اسمه (سوريا)، في هذا النص تواجهك (سوريا) ماضيًا وحاضرًا وبكل ما يحاصرها من بؤس.
وبالنسبة إلى الشطر الأخير من السؤال حول المعايير التي تجعل قصيدة ما قصيدة سُّوريّة؛ بكل بساطة لا أعرف ماهيّة هذه المعايير! أشعر بالعجز عن الإجابة، بل قل إن ماهيّة هذه المعايير تتحدّى معرفتي المحدودة للعبة الشِّعرية. يقول الراحل محمود درويش ما معناه: “لا نعرف ما الشِّعر ولكننا يمكن أن نميزه من الـ “لا شعر”. ربّما مقولة درويش تصيب الهدف. وتخفف من حيرتي إزاء هذه “المعايير” في سؤالك.
- يشتكي الأدباء عمومًا من سلبية النَّقد تجاههم، بمعنى أنه لا يسهم في تطوير تجاربهم. فما الطريقة لإيجاد تواصل بين الأديب والناقد؟
تاريخ النَّظريّة – أقصد النَّظريّة الأدبيّة – مرَّ بانعطافات كثيرة: التمركز حول الذات (الذات الكاتبة)، التمركز حول النّص، مرحلة القارئ وموت المؤلف، وراهنًا مرحلة القارئ (أي قارئ) وموت الناقد…إلخ. وفي كلِّ مرحلة ثمة إشكاليات كانت تنهض بين الكاتب والناقد، وما تزال في تصاعد. أما سوء الفهم فينبع من استمرار “التمركز حول الذات” بالنسبة إلى الكاتب من حيث هو مالك العمل الأدبيّ والحارس المؤتمن على معناه، أي إنه هو المتصرف بماهيّة المعنى وطبيعته وحدوده، وكما ترى؛ فإن هذا الموقف هو استمرار لرؤية غير تاريخية، فمعنى العمل الأدبيّ يندُّ عن الإمساك والامتلاك، فهو أشبه بالفيض الذي يخترق الحدّ/ الحدود. عندما ننظر إلى العمل الأدبيّ على أنه كائن تاريخي، ومعناه منوط بتجربة القراءة، عندئذ يمكن للعلاقة بين الكاتب والناقد أن تثمر وتتحرك في اتجاهات غير معتادة. من جهة أخرى لم يعد النَّقد، بوصفه ممارسة في الاستنطاق والتأويل، رهين أوامر “الكاتب”، النَّقد بات تجربة لها خصوصيتها في البعد الأجناسي؛ إذ يتجاوز الخطاب النَّقدي وظيفته التقليدية في تفسير النصوص، لتكون له جمالياته وطرائقه ومفارقاته في التشكّل، أتحدث عن نقدٍ نظريٍّ؛ مارستُ مساحاتٍ منه في «شؤون العلامات» و«اقترافات التأويل»، وحتى في «لعبة العلامات» الذي لم ير النور بعد.
- يرى بعضهم أن النَّقد الأدبيّ العربيّ الحديث -اليوم- في وضع مأزوم؟ وأن النقاد العرب المعاصرين لم يستطيعوا أن يبلوروا نظريّة خاصة في النَّقد الأدبيّ العربيّ؟ ما رأيك؟
لا أتفق مع هذا الرأي؛ الأزمة تفتك بكلِّ شيء راهنًا، لكن دعني أن أوضّح شيئًا ما؛ أظن أن النَّظريّة النَّقديّة تنمو وتتحرّك في سياق معولم؛ فمن الصعب أن نحدّد هويّةً محددة للنَّقد إذا تجاوزنا اللغة شرطًا للهويّة، ذلك أنَّ نقادًا من جنسيّات مختلفة أسهموا/ يسهمون في إثراء النَّظريّة النَّقديّة، ومن بينهم باحثون من العالم العربيّ (إدوارد سعيد، إيهاب حسن، عبد الكبير الخطيبي، على سبيل المثال)؛ لذلك، ستجد أن المقاربات النَّقديّة على صعيد العالم تتوسل النظريّات نفسها التي تنتجها مراكز البحث: البنيويّة، ما بعد البنيويّة، الدراسات الثقافيّة، السيميائيّات،….إلخ. فلا أدري هل يمكن تحديد هويّة نقد ما الآن، فالنّقاد في العالم العربيّ مثل غيرهم يستفيدون من هذه النظريّات ويتوسلون بها لمقاربة النصوص الأدبيّة. ثم إن تنمية النظريّات والمقاربات النَّقديّة تحتاج إلى فضاءات ديمقراطيّة، تسمح للتثاقف أن يحدث بقوةٍ ليبلور الجديد. وهذا ما يفتقده “العالم العربيّ” الذي تهيمن عليه أنظمة غارقة في الجريمة والاستبداد ومعاداة الحريّة والديمقراطيّة. ومع ذلك؛ وعلى الرغم من كل المحن والصعوبات، ثمَّة إشراقات في الممارسات النَّقديّة التي تظهر في العالم العربيّ، هنا وهناك.
- كيف ترى سبل الخروج من إشكالات واقع النَّقد الأدبيّ العربيّ الحديث؟
الممارسة النَّقديّة مشروطة بفضاءات ديمقراطية، وهذا ما يفتقده العالم العربيّ؛ لأن النَّقد الأدبيّ باتجاهاته المختلفة يروم تفكيك الرموز وتفسيرها وتأويلها، وفي مجتمعات محاصرة بأنظمة استبدادية وجماعات إرهابية (صنعتها هذه الأنظمة ذاتها للتهرب من استحقاقات التغيير والحريّة). انظر ماذا فعل نظام كالنظام السُّوري من تدمير بلد بأكمله؛ للحفاظ على حكم ذي صبغة طائفية وكرسي السلطة لاستمرار الهيمنة)؛ أقول إزاء هذا الواقع وهذه المأساة لا يمكن للممارسة النَّقديّة أن تحدث مثلها مثل معظم الظواهر الثقافيّة التي تعاني من (الاعتقال) والمضايقة والمنع. في مجتمع ديمقراطي وحده يمكننا أن نتحدث عن ممارسات نقدية أصيلة؛ لأن وظيفة النَّقد هي تفكيك التابوهات كافة، وهذا يعزُّ على الناقد فعله راهنًا.
- في رأيك ما التساؤلات المفترض أن يجيب عنها النَّقد الأدبيّ العربيّ المعاصر؟
أكثر التساؤلات أهمية وفداحةً ما يتعلق بحريّة “الممارسة النَّقديّة” التي لا يمكن أن تنمو نموًا حقيقيًا وكاملًا إلا في فضاء محبوك بالحريّة، وأزمة العالم العربيّ أزمة مركّبة، وأزمة النَّقد -سواء بفقره أم بتابعيته- جزء من هذه الأزمة المريعة؛ لذلك، لا أرى أيّ أفق لتنمية الممارسات النَّقديّة والمشاركة الفاعلة في إثراء النظريّات النَّقديّة، إلا بحلِّ معضلة “الحريّة” في العالم العربيّ؛ لذلك، فالتساؤلات الجزئية المتعلقة بالأجناس والأنواع الأدبيّة ملحقة بما تقدّم من توضيح.
ما بعد الحداثة
- يلاحظ اهتمام النَّقد الأدبيّ عندنا -في الآونة الأخيرة- بالرواية، وذلك على حساب الاهتمام بباقي الأجناس الأدبيّة؟ بماذا تفسر ازدهار الرواية في الوطن العربيّ، على حساب القصة والشِّعر؟ هل ترى أن الفنون السَّرديّة مازالت محتفظة بقدرتها على الإدهاش والتأثير؟
في الحقيقة المسارُ التاريخيُّ -ولا سيما في هذا الزمن السَّردي جملةً وتفصيلًا- يفرض جنسًا محددًا بعينه، أو يتيح المجال لهيمنته، ولكن هذا لا يعني اختفاء الأجناس الأخرى، وإنما تعتاش في الظل. وثمة أسباب كثيرة لهيمنة “الرواية”، ولا سيما ما يتعلق منها ببنيّة السَّرد ذاته، فهي تمتاز بالمرونة والقابلية للتشكل بصور مدهشة، وببنيّة عوالم متخيّلة موازية للعوالم الواقعيّة، تسمح لنا بفهم هذه العوالم بصورة أكثر عمقًا. وإذا أضفنا الزمن المعولم الذي يتيح التثاقف والتواصل، فيمكن تفسير الهيمنة الأخاذة للرواية، في الوقت الذي يتشرد فيه الشِّعر والقصة عن مكانهما لصالح الرواية. البنية المرنة للرواية والقدرة اللامحدودة على اتخاذ أشكال متنوعة للبنية، يمنح الفعل السَّردي القدرة على المفاجأة والإدهاش، عبر امتصاص العالم واختلاق من جديد. إضافة إلى أن الأمر مرتبط بالروائي ذاته، وقدرته على فعل التخيُّل. غير أن “الكلمة الشِّعرية” لها منطق آخر في الحضور، بخلاف “القصة القصيرة”، ذلك أن العوالم المفاجئة مشروطة بحضور الشِّعر، الذي لا ينفك يحضر بعد غياب، فالشِّعر مثل الكينونة يغيب، ولكنه برسم القدوم؛ فلا يمكن للكينونة أن تكون دون حضور الشِّعر.
- هل استطاع الناقد العربيّ أن يستوعب مفهوم الحداثة فعلًا، وينتهي من إشكالياتها؟ وكيف ترى تأثير الحداثة في الأدب؟
انتهى مفهوم الحداثة، وراهنًا “العالم” -بما فيه العالم الذي يئن تحت العذاب والاستبداد والإرهاب- العالم الذي نعيش فيه أنت وأنا، يخوض مشكلات ما بعد الحداثة بمستوياتها التقنيّة والبيئيّة والجسديّة والفلسفيّة والأجناسيّة،…إلخ، وهذا ليس خيارنا، فالعالم يشرف على تحولات جديدة في كلِّ الصعد، وتنتقل “الممارسات الأدبيّة” من فضاءات الحداثة إلى ما بعدها، بفعل الزمن المتعولم الذي يتدفق بطريقة مفاجئة في تساوق مع تقليص المكان وانضغاطه، هاك مثالًا: فالروائيون السُّوريون (فواز حداد، خالد خليفة، إبراهيم الجبين، روزا ياسين الحسن، سمر يزبك، خليل صويلح، هيثم حسين، هوشنك أوسي، عبير إسبر…إلخ) بدءًا من التسعينيات أنجزوا نصوصًا مفارقة لنصوص الأجيال التي سبقتهم، عبر استثمار الرؤى التي قدمتها ما بعد الحداثة. هنا لا أتكلم عن المستوى الفني للمنجز السَّردي لهؤلاء الروائيين، وإنما أشير إلى الانعطافة التي أصابت مسار “الحداثة” فنيًا؛ ليغدو المسار برسم ما بعد الحداثة.
جدير بالذكر أنّ الدكتور خالد حسين عمل مدرسًا للأدب العربيّ الحديث سردًا وشعرًا، وكذلك الاتجاهات النَّقديّة الغربية في جامعة دمشق- فرع السويداء (كلية الآداب الثانية). وفي السنوات الست الأخيرة ارتحل من التدريس في سورية إلى جامعة “زاخو” (كردستان العراق)، ومنها إلى إسطنبول، فمدينة بازل في سويسرا حيث يقيم الآن.
[sociallocker] [/sociallocker]