الرواية، أداة وجود أم مطية؟
13 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017
بدر الدين عرودكي
أكثر من مئة عام مضت على صدور أول رواية باللغة العربية، ولا يزال مفهوم فن “الرواية” في كتاباتنا العربية إشكاليًا. تارة لما يراه بعضهم فيه من وضوح شديد لا يحتاج معه إلى مزيد، وتارة أخرى لما يراه آخرون فيه من استمرارية لتراث الحكاية، كما تجلت في الملاحم الشعبية أو في الأخبار السائرة التي عرفها أدب العرب في عصوره الكلاسيكية. هذا مع وجود طائفة ثالثة ممن انطلقوا في ما كتبوه من مفهوم لهذا الفن بوصفه ابن الحداثة الأوربية، ووليد المدينة، وسليل الملحمة التي عرفها الأدب الأوروبي، ولا سيما في القرن السادس عشر، مع الفرنسي فرنسوا رابليه (1494 ـ 1553) والإسباني سرفانتس (1547 ـ 1616).
كان الشيخ محمد عبده أول من أشار إلى انتشار الولع بقراءة الروايات، (وقد سماها “الرومانيات”، نسبة إلى اسم الرواية باللغة الفرنسية: رومان (Roman)، هذا الفن الطارئ على الأدب العربي)، التي كانت تُترجم إلى اللغة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وحين بدأت كتابة الرواية باللغة العربية، نهلت من هذا المنهل الذي أشار إليه الشيخ عبده، أي: الرواية الأوروبية. وسرعان ما عملَ، مع منتصف القرن الماضي، لتمثل أساليبها ومعمارها وغاياتها، كبار أدباء الرعيل الأول العرب، سواء منهم من اتخذ الرواية وسيلته الوحيدة للتعبير، وعلى رأسهم نجيب محفوظ بمصر، وحنا مينة في سورية، أو الذين اعتمدوها وسيلة رئيسة كتوفيق الحكيم ويوسف إدريس من مصر، والطيب الصالح من السودان، وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي من فلسطين، أم الذين كانت إحدى وسائلهم في التعبير كطه حسين وعباس محمود العقاد وإبراهيم المازني من مصر، وشكيب الجابري وعبد السلام العجيلي في سورية، على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال.
غير أن مفهوم الرواية هذا الذي تمكن الروائيون العرب الكبار من ترسيخه شيئًا فشيئًا، في الكتابة العربية، لغة وأسلوبًا وشكلًا وأجناسًا، سرعان ما تعرض لضرب من التطوير عبر محاولة استعادة الكتابات العربية الكلاسيكية، ولا سيما التاريخية منها. كان الروائي السوري صدقي إسماعيل، مثلًا، يجد في مؤرخ كالطبري روائيًا عربيا بامتياز، نظرًا إلى كتابته تاريخ العالم، بدءًا بنشأة الخليقة التي لم يشهدها ولم يكن في حوزته وثائق أو شهادات يعتد بها، في كتابة التاريخ عنها! ليس المقصود -هنا- ما يُعرَفُ بالرواية التاريخية التي عرفتها الآداب الأوروبية على اختلافها، بل استخدام طريقة ولغة المؤرخين العرب القدماء بوجه خاص، في السرد ضمن محاولات تجذير الفن الروائي في تراث الكتابة العربية. ذلك هو الطريق الذي شقه الروائي المصري جمال الغيطاني، وكان بلا شك أهم روائي حاول ذلك في رواياته المختلفة التي اتخذت من التاريخ إطارًا، ومن سرديته أسلوبًا، من أجل التعبير عن مشكلات الواقع المعاصر.
غير أن محاولة الغيطاني بقيت، مع ذلك، وقفًا عليه على الصعيد الروائي، ولم يحاول سواه من الروائيين تبنّيها بصورة أو بأخرى. وقد نعثر هنا وهناك على محاولات قليلة أخرى على صعيد القصة القصيرة، كتلك التي قام بها عبد السلام العجيلي في قصته “فارس مدينة القنطرة”. لكنها لا ترقى جميعًا إلى ما يمكن أن يؤلف تيارًا في الكتابة، أو نهجًا خاصًا في تجذير الفن الروائي في الأدب العربي المعاصر، يخرج به عن سياق المفهوم الأوروبي لفن الرواية. ذلك أن التفكير الرغبي في هذا المجال كان أشدَّ باعًا، على الصعيد النظري، من الإنجاز الفني طوال النصف الثاني من القرن العشرين.
على هذا النحو، أمكن لتراكم المبدعات الروائية العربية على امتداد القرن العشرين، ولا سيما خلال سنوات النصف الثاني منه، ثمرة إنجاز ثلاثة أجيال متتالية من الروائيين العرب، أن يسهم في ترسيخ الرواية جنسًا أدبيًا كامل الأوصاف في أدبنا العربي المعاصر. وأمكن للمنجزات الروائية الأساس فيه، أن تجد طريقها شيئًا فشيئًا، ولا سيما منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، إلى لغات العالم الأخرى شرقًا وغربًا. ساعد في التشجيع على ذلك اكتشاف رواية نجيب محفوظ بعد ترجمة ثلاثيته إلى الفرنسية، ثم حصوله، من بعدُ، على جائزة نوبل بوجه خاص. هكذا أضحى من الممكن -مثلًا- تنظيم لقاء بين عشرين روائيًا فرنسيًا وعشرين روائيًا عربيًا، ينتمون إلى سبع دول عربية، حول “الإبداع الروائي اليوم“، في باريس في آذار/ مارس 1988، وأن تخصص أكبر مجلة أدبية فرنسية واسعة الانتشار هي “الماغازين ليتيرير” عددًا خاصًا عن الكاتب العربي، صدر في الشهر الذي عُقد في بدايته اللقاء المشار إليه.
كان الوجود الكثيف لكبار روائيي الأجيال الثلاثة المشار إليها، يغطي البدايات الخفرة لجيل جديد من الشبان كان يسعى حثيثًا، ابتداءً من العقد الأخير من القرن الماضي، إلى إثبات وجوده. فجاء إنتاجه، على علاته، يعكس جهدًا حقيقيًا في الكتابة الروائية، ويقدم بعضًا من محاولات سبر إمكانات هذا الفن الأدبي الواسعة في اللغة العربية. إلا أنه، وكما هو الأمر في الأجناس الأدبية الأخرى، وفي اللغات المختلفة، لم يكن للرواية العربية أن تؤلف استثناء، في أن يجمع فضاء إنتاجها كثيرًا من الغثّ والقليل من السمين. ومن ثمَّ، فقد أنتجت دور النشر العربية، والمصرية منها بخاصة، خلال ربع القرن الأخير، عددًا وفيرًا مما حُمل على عنوان “رواية”. وتضاعف هذا العدد مرات منذ عقد من السنين، بعد أن بدأت الجوائز المخصصة للرواية بالتكاثر على الرقعة العربية، وعلى رأسها جائزة البوكر. فيضٌ من روايات لا يمكن -في أي حال- لمن قرأ محفوظًا أو يوسف إدريس أو الطيب صالح أو إميل حبيبي أو جبرا إبراهيم جبرا -على سبيل المثال- أن يتجاوز الصفحات الأولى من هذه المنشورات التي حُمِّلَتْ صفة الرواية. لا لسوء الكتابة أو بدائيتها، ولا لضحالة التعبير أو عاميته فحسب، بل للرغبة الواضحة أو المفضوحة -بالأحرى- في الكتابة من أجل ــ لعل وعسى ــ الجائزة المنشودة، وما يمكن أن يليها من الثروة والشهرة!
في واحدة من مقالاته حول الرواية، كتب الروائي الفرنسي ميشيل بوتور ذات يوم: “لا أكتب الروايات كي أبيعها، وإنما كي أحصل على الوحدة في حياتي. فالكتابة بالنسبة إلي عمود فقري.” أو: “طريقة من أجل البقاء واقفًا”.
ومَثَلُ ميشيل بوتور يمكن أن ينسحب، لا على كبرى الأسماء التي عرفها تاريخ الرواية في الغرب، من أمثال بلزاك وستندال وبروست ودستويفسكي وفوكنر، وإنما -كذلك- على عدد من أكبر الأسماء العربية اليوم التي ذكرنا عددًا منها في بداية هذه المقالة.
وشتان بين الذين اتخذوا من الرواية أداة تعبير وجودية، وبين من اتخذوها (وما أكثرهم) مطية للوصول إلى حفنة من دراهم معدودات، سرعان ما ستحملهم وما كتبوه إلى غياهب النسيان.
[sociallocker] [/sociallocker]