أحمد دحبور… نصف قرن من التجريب الشعري


تكاد تكون صورة العلاقة مع الأب- غاسل الموتى وقارئ القرآن على القبور- محورًا أساسيًّا ومركزيًّا في التجربة الحياتية والشعرية للشاعر الراحل أحمد دحبور (1946-2017). علاقة تنطق بالكثير من «دواخل» الشاعر وعوالمه، وخصوصًا العلاقة مع الموت الذي شغل الأب. انه يعكس ثقافة سائدة، كما ينعكس في قصائد الشاعر الراحل: «كم كنتَ تخجلُ بي أنا/ أنا غاسلُ المَوتى/ وكنتُ على القُبورْ/ أتلو كلامَ الله…».
لكنه في الواقع لم يكن يخجل من الاعتراف بواقعه، بل يقول «كان لوالدي الشيخ مهنة غريبة. كان يغسل الأموات ويقدمهم للدفن، وكان يسحر في رمضان، ويقرأ القرآن على القبور، وكان هذا يعطي انطباعاً في المخيم اننا أسرة على علاقة وطيدة بالموت، وكنا فقراء الى حد يصعب وصفه، ويمكن القول اننا كنا أفقر أسرة في المخيم». ويتابع: «كنا أسرة كبيرة العدد، ولم يتوافر لنا الا غرفة واحدة، حتى أن اخي الكبير عندما تزوج اضطر الى وضع ساتر قماشي بيننا وبينه هو وعروسه في الغرفة نفسها».
فهو، في جانب مهمّ من حياته وشعره، صنيع هذه العلاقة، ابتداء، ثمّ صنيع الكارثة الفلسطينية التي عاشها منذ ولادته قبل عامين من «النكبة»، وتشرّده في المخيّم الفلسطيني، في حمص السورية التي تقاسمت عشقه مع حيفا، حتّى أنه أهداها مجموعته «كسور عشرية»، فكتب «إلى ثكنة خالد بن الوليد، مخيّم أهلي في حمص، وإلى حمص.. مدينتي الثانية» (1992)، بل أهدى مجموعته «هكذا» (1990) إلى الشاعر موريس قبق الذي يوصف بأنه «أحد أكثر شعراء سورية وحمص رهافةً وشفافية وموهبة».
في تجربة دحبور الشعرية محطّات ومراحل، تجربة ممتدة بين «الضواري وعيون الأطفال» (1964)، وقد نشره حين كان في الثامنة عشرة من عمره، ثمّ «حكاية الولد الفلسطيني» وصولاً إلى آخر اشتغالاته، فضلاً عن انشغالاته النقدية. لكنّ ثمة دواوين تركت بصمة خاصة في هذه التجربة، وأخص بالذكر «كسور عشريّة» و «بغير هذا جئت»، و «هكذا»، و «جيل الذبيحة»، و «واحد وعشرون بحرًا»، كتبَ فيها الهمّ الخاصّ ممزوجاً بالعامّ، وجرّب أشكالاً من الكتابة الشعريّة غلب عليها شعر التفعيلة، لكنّه خرج على هذا الشكل باستخدامات ناجحة للبحور المركّبة، حتّى إن البحور الستة عشرة المألوفة، باتت عنده واحدًا وعشرين بحرًا.

شَعرنةُ الحياة
شِعره، كما يصفه بنفسه، هو سجلّ حياته، بل هو حياته «أرى الحياة وأنقل عنها»، كما في بعض كلامه، لكنها الحياة بجوانبها المختلفة والمتقابلة، منظورًا إليها بعين الشاعر «المتفلسف» والناقد. الشاعر الذي يحوّل الكلام العاديّ المتداول إلى شعر، ويترك فينا، نحن قرّاءه «شهادة بالأصابع الخمس» (1982)، شهادة تترنّح في كلام «بين موت الغريب ودمع الغريب»، لشخص يتكلّم «باسم حرائقنا الموشكة»، كما لو كان يرى حزيران بيوتاً وحصارها ورحيل المقاومين عنها. الشخص/ الشاعر الذي يبوح «كنتُ أقبل بعض النصائح/ لكنّني، في زمان المذابح، أختار قلبي/ فأبقي على جمرة طيّ ثوبي/ وألقي بنفسي إلى التهلكة».
واضافة الى عوالمه الخاصة، عوالم الفقراء «المصابين بفقر الدم»، الذين يصيحون «إنّا وُلدنا شيوخًا/ وطارت عصافيرُنا والطفولة لم تأتِ.. من أين تأتي؟»، فهو يمتلك لغة خاصّة هي أقرب إلى لغة هؤلاء الفقراء والبسطاء، لكنّها محتشدة بالصور البلاغية المدهشة، صور تستحضر الموروث الشعبيّ والتراث العربي والإنسانيّ، لتقدّم «قصيدة» ذات خصوصيّة. وهو الذي كتب لفلسطين التي لا تكون فلسطين، إلا «إذا طُلبتْ كاملة». كما ورد في قصيدة «كلام الغريب» التي نظمها الشاعر عام 1980.
إنّنا حيال تجربة تتميّز بكونها تنطوي على أكبر قدر من التحوّلات والتجريب، بين الشعراء الفلسطينيين، والعرب ربّما. فما بين المجموعة الأولى، «الضواري» التي بدا الشاعر فيها متنطّعًا لأسئلة أكبر منه، وبين المجموعات التالية، تحديداً مع «واحد وعشرون بحرًا»، وما بعدها من تجريب، اختلف الكثير في تجربة الشاعر، سواء على مستوى الوعي لطبيعة الشعر ودوره، والعلاقة بين الشاعر والجمهور، أو على مستوى القصيدة ذاتها، وما جرى عليها من تطوّر.
كانت تجربة محكومة بالقلق والأسئلة، أكثر من احتكامها إلى الثوابت واليقين، لذا شهدت التحوّلات المشار إليها، أو الانتقال بين صور مختلفة لفلسطين وقضيتها، صورة شديدة الوضوح والمباشرة حينًا، وصور مجرّدة أو غرائبية أحياناً، حتى إنك قد تقرأ ديواناً كاملاً فلا تجد فيه اسم فلسطين. في مجموعة «واحد وعشرون بحراً» (1982) لن تجد كلمة فلسطين مرة واحدة، وليس معنى هذا أن الشاعر تخلى عنها، لكنّ مفردات العالم تغيّرت حوله، فألزمته اكتشاف خطاب جديد، خطاب يتّسع للنبرة الفردية، والتقاط الجزئيات الصغيرة، الانتباه إلى البيت والأصدقاء، وشوارع المدن المختلفة، ثمّ كان لا بد من انتقال آخر بعد عدد من الخيبات الوجودية والعامة. وهكذا، كان من الطبيعيّ في تجربته، أن يتحوّل السؤال الوطنيّ في شعره، سؤالاً وجودياً وإنسانيّاً.

هاجس التجديد
كان دحبور، مع كلّ ديوان جديد له، يفجّر قضية جديدة، وأسئلة وهواجس مختلفة، إذ تختلف الهموم، فتختلف النبرة واللغة، وذلك تعبيراً عن تحوّلات المحيط التي تعكس نفسها داخل الشاعر، حتى يمكن الذهاب إلى القول إن سيرة حياة الشاعر هي موزّعة في قصائده، فمن النوستالجيا التي أيقظت قصص طفولته في مجموعة «كسور عشرية» عام (1991)، إلى قصائد عبّرت عن العودة الجزئية إلى الوطن، عودة كانت مفجراً لشعور طاغٍ بالخيبة، خصوصاً أنها كانت إلى غزّة، ما دفع بالشاعر للعودة إلى حمص، التي سيغادرها مجددًا مع «الثورة» والعنف، فكانت مجموعة «جيل الذبيحة» (1999)، أي الجيل الذي شهد الهزائم العربية المتوالية. لذا كان يمكنه القول «أرى أن شعري مرآة لسيرتي الجوانية».
ظلّ دحبور ينظر بعين القلق، بل الأرق، إلى وصول القصيدة العربية إلى ما يسميها «التقليدية الجديدة…»، فنحن، وفق توصيفه، غالباً ما نقرأ الكتب نفسها، ونجري الحوارات نفسها، ونعاني الهموم (الوطنية والاجتماعية خصوصاً) نفسها، وإذا ما حملنا هذا كله إلى أوعية القصيدة الحديثة ذات التفعيلة، وجدنا أننا نسبح في بضعة بحور شعرية محدّدة، الأمر الذي يساعد، ضمن عوامل أخرى، على كتابة قصيدة موحّدة، بحيث كاد التمايز بين شاعر وآخر يقتصر على الدرجة في الطاقة الشعرية، لا على النوع الشعري.
لهذا كله، كانت التحوّلات والتجريب الذي بلغ حدود الدخول في قصيدة النثر، مثلاً، أو عناوين الدواوين، ورفضه الخضوع للشعارات والتعاليم «الثورية» السطحية التي كانت تدعو إلى تثوير «موضوعات» الشعر، وإلى التساهل الفنيّ في سبيل الوصول إلى الجماهير، فهي تعاليم لم تصمد للتطوّرات العنيفة التي شهدتها الحياة العربية بعامة، والفلسطينية بخاصة. لقد أسرعت التراجيديا الفلسطينية، خصوصاً بعد 1982، الى تفجير الأسئلة أمام الشعراء، وتحريض حاسّة التأمل لديهم، فجعل الشعراءَ يبحثون عن أشكالٍ جديدةٍ تعبّر عن نوازعهم التي غدت أقل صراخاً في شكل عام، وإنْ لم تكن أقل ألماً وجراحاً.
أخيرا، نعود قليلاً إلى الحضور المبكر لدحبور في الحياة الثقافية العربية، حضور كان له دور أساسٌ في ما عرفه من شهرة وحضور، سواء على صعيد نشر دواوينه، أو على مستوى قراءته واستقباله من قبل النقّاد والصحف، حتى إنه يعتبر نفسه «من جيل نشر نصوصه في مجلة الآداب البيروتية، التي كانت تتميز بباب فريد من نوعه، عنوانه (قرأت العدد الماضي)، حيث كان يتولى النقّاد دراسة القصائد، وتتيح المجلة للشاعر أن يرد على الناقد إذا رغب. وقد أفدتُ من هذه التجربة بغير شك، بل ربما أرسلني النقاد في بداية تجربتي، إلى اختيارات لم تكن دقيقة تماماً».



صدى الشام