إيلان يعود مـجدّدا إلـى الحـياة


حاتم محمودي

لقد انتبه المسرح العراقي، وهو يُمسْرحُ خراب العالم، إلى أنّه لا جدوى بعد اليوم من كلّ فضاء مغلق، فحياتنا مُمَسرحةً سلفًا، ولحمنا الآدميّ أشلاء أوصال منتشرة على خرائط الأرض، لهذا ما معنى أن نمارس الفعل المسرحي من داخل خصوصيته، ونحن ندرك أنّها تتناقض معنا؟ لقد أُفرغنا من كلّ صرح جماليّ ينتمي إليه راهن هذا الفنّ، ولم يعد لنا غير تشغيل قتلانا؛ كي نواجه هذا الانقراض الذي يفتح أشداقه مثل ثقب يبتلعنا أو هو يشطبنا من الوجود.

وإذا ما تساءلنا عن التراجيديا، نحن لن نلتفت حتمًا إلى دلالتها المسرحيّة، ففاتحة هذا القرن جعلتنا نعيش صلب الكارثة؛ لهذا، لن نحاور الكتب العظيمة ونظريات الفلاسفة بشأنها؛ لأنّنا على “يقين مالح” ندركها كما لو أنّها خبزنا اليوميّ، لكن كيف يمكننا زراعة موتنا في تربة المسرح زراعة تقوّض العالم برمّته، ويعيد لنا شرعيّة الحياة والبقاء؟

علينا أوّلا الانتباه إلى مأساتنا، أن نعيد تشغيل رمز من رموزها ونتوغّل “عميقًا في الدمّ”، ثمّ نُقدمُ على المقاومة قبل أن نهرب، ونحن “نلج البحر” مثلما مات “إيلان” الذي قذفته الأمواج على شواطئ المهزلة التراجيدية. لم يكن هذا الطفل السّوري مهاجرًا، بدافع الرعب، إلى الحياة، فالذي يتحدّث باسمها هو الذي مزّق أوصال وطنه بإيعاز سياسيّ من الداخل، ولكنّه ظلّ يخبط في خرائط عمياء، يهرب من العدم إلى عدم أشدّ ضراوة وقسوة. لقد مات ايلان مرّتين، غنّته نوارس البحر في المرّة الأولى، ثم شطب من ذاكرتنا في المرّة الثانية، لكن ها هو يعود محمولًا في جنسيّة كل الشّعوب التي حلّت بها الكارثة، وهل ثمّة شعب مثل الشعب السوري عايش مرارة الحرب مثل العراق؟ الآن، ومنذ العرض المسرحيّ “موت صالح للشرب” الذي شهده مهرجان شرم الشيخ الدولي لمسرح الشباب، للفرقة المسرحيّة العراقية، صار بوسعنا أن نشاهد “ايلان” عراقيًّا.

مثلما لفظت الأمواج جثة “إيلان”، هي الآن تلفظ أجساد الممثلين، حتّى أنّنا نراهم في أوّل العرض يخرجون من عباب البحر إلى الشاطئ، ثم ينامون على حافته، بينما أحدهم بلباس ذلك الطفل نفسه، كما لو أنّه عاد إلى الحياة من جديد، مُتقمصًا أجساد هؤلاء، ليديننا ويدين العالم برمّته، أو ربّما يفضح سلوك هجرتنا الإنسانية، ويكشف خواء الوجود فينا، وكأنّ الحرب لا تختلف في شيء عن هروبنا منها.

يصرخ أحد الممثلين، بصوت مبحوح، على لسان “ايلان”: “كلّ ما حلمت به هو أن أمارس الحياة بعيدًا عن رائحة الدم”، لكنّ سفينة النجاة، على ما يبدو، خانت “جلجامش” وهو يبحث عن شجرة الخلود، وخانت النبيّ “نوح” وهو يهرب من الطوفان، ثم ها هي توزّع أشلاء “إيلان” في اللّحم المسرحيّ الذي نشاهده على شواطئ “شرم الشيخ المصرية”، والقادم من أوصال العراق وشهقة الموتى السوريين.

هل صارت لإيلان أكثر من جنسية؟ وإذا ما عددنا أنّ مأساة هذا الطفل تمثّل أعنف تراجيديا تشهدها فاتحة القرن الحادي والعشرين، هل كانت لجنسيته العراقيّة نجاعة من حيث الفعل المسرحي في عرض ” موت صالح للشرب”؟ كيف نقرأ حضوره الرّمزيّ –الفنّي- أمام جمهور هو في حقيقة الأمر لا يتابع العرض إلا بصدفة محض؟

لنعترف أنّ جوع هذا الجمهور إلى الانسانية قد يحوّله إلى “وجبة شهيّة” محض، لكن كيف نقرأ نحن، النقاد والمسرحيين والفلاسفة، كما نزعم، حضوره أو حلوله في أجساد أولئك الممثلين، والحال أنّه ثمّة أكثر من “إيلان” آخر في هذا العالم وفي المنجز المسرحي الذي نشاهده أيضا؟

إنّ كلّ هذه الأسئلة التي نطرحها لا يمكن أن تشعرنا إلا بحجم الوقاحة الكامنة فينا، بل ترتدّ مثل أنصال لتميتنا، إذ بقدر ما نحاول تفسير ما يطرح أمامنا، تأتي أسئلة جديدة يطرحها أحد الممثلين في نصّ العرض، فإذا بها تجعل من أفواهنا تصطكّ من شدّة وطأة الدهشة، لقد صار لإيلان هويّة جديدة، صار يحمل اسمًا ثانيا:

– “كيف حال أنكيدو يا جلجامش”؟

إنّ هذا الطفل، المسمّى “إيلان”، ابن البراءة وعفوية العالم وصفاء الإنسانية، من دون براثن حضارة مشوّهة، لم يكن له شبيهًا في هذا الاسطبل البشريّ غير “أنكيدو”، أما “جلجامش” السلطويّ، فقد تحوّل إلى مهرّب محض، وهو الآن كما نراه في هذا العرض يسخر من عشبة الخلود، ومثلما اصطادت البغي “أنكيدو”، بوصفه قربان رغبة الشعب في الثورة، اصطادت الحرب “إيلان” بوصفه -كذلك- قربان الصراع في سورية، وفي العراق، أما “جلجامش”، فهو الآن معنيّ بخلوده على كرسيّ السلطة، لا خلود شعبه، ولكنّه سيهرب -أيضًا- ويبحث له عن قارب للنجاة، بينما سيظلّ “أنكيدو”، أو لنقل “إيلان”، البذرة الملقاة على شواطئ قريبة، منها ستنبت شجرة الخلود.

طوال مدّة العرض، يظلّ “إيلان” – الممثل- ملقًى على الشاطئ، بينما يتصادم بقيّة الممثلين، ويكبر الصراع بينهم: هو جوهرة الصراع الحقيقي للثورة السورية وأيقونتها، وهو -أيضا- وقود الوجع العراقي في خضمّ مساءلة ملاحمه القديمة في ضوء راهنه الموجع، بينما يتقمص البقية دورًا جديدًا، أبطاله أولئك السياسيين وتجّار الأسلحة الذين مزّقوا البلدين. لكن ماذا عن موقف الجمهور المتابع للعرض؟ ألا يبدو حياده شبيهًا جدّا بحياد معظم المتابعين للقضية السورية وما يحدث في العراق؟

أجل، هذا ما حدث فعلًا في أثناء اشتغال العرض الفرجوي، إذ اكتفى المتلقي بالمتابعة أو التصفيق، كما لو أنّه في فضاء مسرحيّ مغلق، ومن سوء حظّه أنّه الآن أمام عرض في فضاء مفتوح، إذ من سمات الفرجة أنّها تجعل من المشاهد أحد صنّاعها؛ فتورّطه ليعبّر عن رأيه ومنظوره الخاصّ إلى موضوعها، وهذا ما أقدم عليه ممثّلو العرض الذين توجّهوا إلى المشاهدين عبر استفزازهم وتوريطهم في صناعة الحدث الفرجوي.

– “تخيّل، تخيّل، تخيّل، تخيييّل !”

صحبت هذه الصرخة التي أدلى بها بعض الممثلين في وجه بعض المشاهدين للعرض، صورة جثة “إيلان”، بينما رافقتها حركة بعضهم وهي تسحب بعض المشاهدين -أيضًا- إلى ركح العرض –الشاطئ- ما حوّل -بعدئذ- جميع الحضور إلى مشارك في صناعة الفرجة، وقوّض ذلك الحياد، فصار ضروريًا الإدلاء بموقف ما من إقامتنا في صلب الكارثة: لقد شطب هذا العرض سلوكنا الكربلائي، نحن العاطفيون، الانفعاليون، العاجزون عن تجاوز لعب دور الضحية، ثمّ دفع بنا إلى ضرورة طرح الأسئلة الملحّة عن راهننا: لماذا الصمت وكلّنا هذا الطفل “إيلان”؟

– “الشمس في بلادي أجمل من سواها”

ندرك جيّدًا أنّ هذه العبارة تعود إلى الشاعر العراقي “بدر شاكر السيّاب” [العبارة للسيدة عائشة: إني لأرى القمر في مكة أجمل منه في المدينة]، ولكنّها الآن تحضر في النسيج النصّي من الدقيقة الأخيرة لنهاية العرض، بما هو قائم على التناصّ، بوصفه آلية كتابيّة تقوّض “سلطة المؤلّف”، وفي اللحظة نفسها التي اختنقت فيها الثانية الأخيرة من هذه الدقيقة، كان الممثلون جميعًا يلبسون اللباس نفسه الذي كان يرتديه “إيلان” حين لفظته الأمواج غريقًا.

لم يعد ثمّة ضرورة لجلجامش السلطوي، ولم يعد ممكنًا أن يكون فينا “أنكيدو” آخر، فكلّنا بهذا الشكل “إيلان” جديد، ومأساة أخرى، ولم يعد ثمّة خيار لنا غير أن نكون ضحايا الهروب، أو عشاق الشمس في بلادنا.




المصدر