سورية تحت احتلالين


عمار ديوب

باتت سورية تحت احتلالين أصيلين، روسيا وأميركا؛ وأصيلين؛ لأن إيران وتركيا كانتا تدعمان طرفي الصراع السوري، وحالما تعقّد الصراع أتى الأصيل، وبدأت مرحلة خروج الوكيل. الممانعة التي تُبديها كل من تركيا وإيران، ستتقلص تباعًا، وسيكون دورهما في سورية وفقًا لما يتفق عليه الأصلاء.

الوجود الروسي والأميركي لم يعد هامشيًا، بل مُدعّمًا بقواعدَ عسكريّةٍ، وبوجود ميليشيات محلية طوع البنان، ويرافق ذلك مشروعات اقتصادية كتبت عقودها روسيا وتسعى إليها أميركا؛ وإذا كانت لتركيا وإيران مطامح اقتصادية فلن تكون وفق مخططاتهما، بل وفق ما يعطى لهما كما ذكرنا.

الغائبُ الحقيقيُّ عن كعكة البازار هم السوريون، بأغنيائهم وفقرائهم، وإذا كان الأغنياء يجدون صَيدهم دائمًا، فإن الفقراء سيكونون هم الفرائس، كما كانوا وكما هو حاليًا؛ مجموعات من النظام مع تياراتٍ في المعارضة ستكون الحكومة المستقبلية التابعة. النتيجة السابقة متأتيةً على خلفية الضربة الأميركية للقاعدة العسكرية في الشعيرات، وما أفضت إليه من تحركاتٍ دوليّةٍ قد تدمج المسارات كافة، وتطرح إلى جانب الحرب ضد “داعش” و”النصرة” ومحاصرة إيران الحل السياسي كذلك.

مصير الأسد يُطرح مجددًا، ومن ثم؛ هناك عودة إلى جنيف 1، وسيُضرب بعرض الحائط بقية الجنيفات والآستانة، وكانت لتمرير الوقت ولإحكام السيطرة الروسية والأميركية. دخول واشنطن القوي على الساحة السورية غيّر في المعطيات كافة، وليس الاكتفاء بالائتلاف الدولي أو حماية قوات صالح مسلم والوجود في منبج، ومن ثم؛ ما كان يُعتقد أنّه النهايات، أي إن النظام انتصر وسيُعاد تأهيله ضمن المتحالفين ضد الإرهاب، وأن روسيا هي المُتحكم الوحيد في مستقبل سورية، نقول إن كل ذلك انتهى.

ترامب، وبعد تأكيده أن الوضع السوري أصبح من مسؤوليتي، أي إنّه لن يترك سورية لروسيا كما كان الحال مع أوباما، وأنّ الضربة بداية الرقص. وهذا يعني الضغط على روسيا لتفكّ تحالفها مع إيران والنظام؛ وتخيير روسيا بين الانضمام إلى حلف مع أميركا أو حماية نظام لا مستقبل له. إذن؛ روسيا تُحشر في خانة ضيّقة من الاحتمالات، أي إيقاف اللعب والتحالف مع إيران أو حماية النظام، والبحث عن آلية لإنهاء هذه الملفات والسير نحو تحالفٍ دوليٍّ، يُرتبُ الوضع في سورية والعراق، وربما تمتد مساحات التفاوض إلى مسائلٍ دوليّةٍ أخرى.

يدعم الموقف الأميركيّ الجديد موقف أوروبيٌّ وبريطانيٌّ، بالضغط على روسيا والتهديد بعقوباتٍ جديدةٍ، لتتوقف عن سياسة الحماية للنظام، والصمت عن تدمير سورية وإغراق العالم بملايين اللاجئين؛ الموقف هذا سيجدُ دعمًا كبيرًا من تركيا ودول الخليج؛ إذن؛ هناك رغبة دوليّة وإقليميّة لإيقاف الحرب في سورية والمباشرة بحلٍّ سياسيٍّ، لا يُكرّر تجربة العراق وليبيا، وبالتأكيد لن يكون مثيلاً لتجربة تونس أو مصر، وفي النهاية لكل تجربةٍ خصوصيتها. المشكلة هنا، أن كل ما ذكرناه لا يتم بأيدٍ سوريّة، ومن ثم؛ سيخضع للتفاوض بين الدولتين المُسيطرتين على سورية، أي أميركا وروسيا بالتحديد.

وهنا سيكون السؤال البديهيّ، وطبعًا في حال لم تتأزم الأمور بين روسيا وأميركا، وهي فرضية لن نستبعدها، وإن يكن نصيبُها في الحدوث قليلُ، مع إضافة فكرة هنا تقول باستحالة إبقاء الوضع السوري في حاله قبل الضربة الأميركية، ومن ثم؛ السؤال هنا: أي مصلحةٍ للسوريين في حلٍ سياسيٍّ أصبح ضرورة للدوليتين العظميتين وليس للسوريين ولدولِ الإقليم فحسب؟

لا شك في أنّ للسوريين مصلحة كبرى في إيقاف الحرب، واعتماد الخيار الذي رفضه النظام منذ 2011، أي الحلُ السياسيُّ، وهذا سيُعيد طرح كل قضايا سورية وفقًا للهويّة الوطنيّة، أي للتفكير بالسوريين وفقًا لهويّة جديّدة، ستكون بالضرورة وطنية؛ الإشكال أن الدول المُحتلة مصلحتها مختلفة كليّة مع فكرتنا هذه، أي تريد سورية وفقًا لما وصلت إليه، ومن ثم؛ تسييس هويات ما قبل الوطنيّة والاثنيّة، ورفض النهوض بسورية وفقًا لأهداف ثورتها؛ فما يُسهل ويُؤبْد سيطرة الاحتلال هو ذلك التسييس بالضبط، وليس طرح الوطنيّة هويّة جامعةٍ؛ الوطنيّة تقام على المواطنة بالتحديد، والتساوي بين الأفراد في الدستور والقوانين.

ستُواجهُ السوريين مشكلة كبرى، وهي التسييسُ الطائفيُّ الكبير الذي انتهجته بعض القوى السياسيّة وبعض المثقفين والنظام، وأصبح يُشكل وعيًا شعبيًا مؤثرًا. هذه المشكلة، وأسميها مشكلة، هي ضد كل هويّة مشتركةٍ للسوريين، وأيضًا لا تخدم مصالحهم لا أفرادًا ولا جماعات دينية؛ فهي وصفة حربٍ أهليّةٍ. أريد القول إن هذه المشكلة قد تُسهِلُ مهمة الاحتلالات الخارجية، وتؤخر النهوض بسورية، إذ سيكون الخوف من الآخر سببًا للاستعانة “بالأجنبي”، أي: وبدلًا من تشكيل رأي عام واسع لمحاصرة الاحتلال وطرح مسألة جلائه عن سورية، سيكونُ موضوع ترحيبٍ؛ لمنع الحروب والانفلاتات القاتلة.

ليس في جعبة أميركا وروسيا رؤية للسوريين خارج أنّهم طوائف، وهناك أكراد وقومياتٍ أخرى، وهناك نظامٌ “علويٌّ”، ومعارضةٌ “سنيّة”؛ التصور المبتذل هذا للصراع في سورية وفق هذه العقلية سيؤدي إلى محاولة تشكيل الدولة السورية وفقًا له. هذا التصور سيجد آذانًا صاغية عند سوريين كثر، وبدلًا من التعلم من فشل الطائفية في لبنان والعراق فقد يتمُ تبنيها. مشكلتنا السوريين أن المعارضة لم تستوعب هذا الدرس، ولم تقرأ أن للدول العظمى مصالح إمبريالية واستعمارية في سورية؛ أي روسيا وأميركا بالتحديد، ومن ثم؛ يجب العمل لصوغ مشروع وطني للسوريين كافة.

الشعب الذي أصبح بين تهجير اثني عشر مليونًا، وأكثر من نصف مليون شهيد، يُفضلُ الحلَّ السياسيَّ وإيقاف الحرب والانتقال إلى التعايش المشترك، وفقًا لما كان الأمر عليه في العقود الأخيرة، ولكن مع إنهاء النظام الأمني الإفقاري. التسييسُ الطائفيُّ سيُعيق بالتأكيد ذلك، وهنا نجد تناقضًا قد يكون استعصائيًا، أي: هناك رغبة في التعايش، ولكن هناك تسييس يمنع ذلك، وهو ما ستستغله، كما أشرت، أميركا وروسيا لاحتلال سورية.

ما يُسهم في تعزيز الميل الوطني أن تحدث محاكمات عادلة، وأن تُعطى الحريات العامة، وألّا يتم الانتقال إلى أي عمليّة سياسيّة طائفية، وكذلك تأجيل الفدرالية شكلًا لعلاقة الأكراد بالعرب في سورية؛ فالموضوع مطروح في هذا السياق، وليس في سياق جغرافي ومدن تريد هامشاً أكبر من الاستقلالية عن العاصمة.

سورية تحت الاحتلال الثنائي الآن، وهناك تدخلٌ إقليميٌّ كبيرٌ، وإسرائيل أصبحت في موقع المراقب الدقيق للداخل السوري وليس فقط لشؤون حزب الله وإيران. هذا الوضع يتطلب دراية سوريّة كبيرة لجملة هذه المخاطر؛ الداخلية والخارجية، وتبني مشروع وطني لصالح الجميع. سوى ذلك سيتعزز الاحتلال والنهب والتبعية والطائفية، وربما ينفلت صراعٌ كرديٌّ عربيٌّ كارثي.




المصدر