معارضة “داخل وخارج”


عقاب يحيى

نغمة معارضة “داخل وخارج” منتشرة كثيرًا، ولاسيما مع سنوات الثورة، ووجود شيء من تمايزات موضوعية، لكن بعضهم يريد استثمارها في غير حقيقتها، والاستدلال بها وصولًا إلى أحكام ونتائج تخالف القصد، والواقع.

لا شكّ في أن المعارضة الأساسية هي تلك التي تعيش في أرضها، تستقي مواقفها من واقع شعبها، وتستمد من نسغ الشعب تحليلاتها وتطوراتها، وليس عبر وسائط مختلفة المسافات والدقة.

لكن وجود معارضة في الخارج لم يكن أمرًا طوعيًا، أو خيارًا عاديًا؛ لقد أجبر النظام الأمني القمعي كثيرًا من القوى والشخصيات المعارضة على الخروج؛ صونًا للحياة، أو هروبًا من الاعتقال الطويل، أو بحثًا عن فضاءات للتعبير والحركة، والجميع يعرف أنه منذ قيام نظام التفحيح “التصحيح” واعتماده الأجهزة الأمنية ركيزة أساس، كانت إجراءات مطاردة المعارضين له، وسحب جوازاتهم، ومحاربتهم بلقمة العيش، وبكل الوسائل، أحد أهم توجهاته النهجية؛ فاتخذ عددًا من الإجراءات ضد من اتخذ موقفًا معارضًا له، بما في ذلك قرارات الاعتقال، والإبعاد، والمطاردة، ما دفع عددًا من هؤلاء إلى اللجوء إلى بعض البلدان الأوروبية والعربية؛ طلبًا للأمان والعمل.

وعلى امتداد سنوات ما يعرف بالمواجهة مع “الحركة الدينية”، عرفت سورية لجوء آلاف المطلوبين إلى الدول المجاورة، وأوروبا، خاصة من الإسلاميين، والمحسوبين عليهم، ومن الذين خافوا أن تطالهم موجة الفاشية الدموية، إضافة إلى اضطرار كثير من الشخصيات الوطنية، والاقتصادية، إلى مغادرة البلد، واختيار أمكنة للعمل والتعبير.

يجب أن نسجل -هنا- حقيقة مخالفة لأصحاب دعوات الداخل، ونفي علاقة الخارج بالداخل وهي أن كثيرًا من الأحزاب والتشكيلات، وإن ارتحلت بعض قياداتها، وأطرها، إلا أنها ظلت على تواصل مع أجسامها التنظيمية، وهي -من ثم- لم تكن مقطوعة الجذور، ولا بعيدة كثيرًا عمّا يحدث داخليًا.

أحدثت الثورة السورية تغييرات جوهرية في هذه المقولة، فحركة النزوح، والهجرة واللجوء أوجدت واقعًا مختلفًا عن الذي كان قبلها.

لقد خرجت أعداد كثيرة من أطر الثورة وقيادات الأحزاب إلى الخارج، خاصة إلى تركيا ومصر، والأردن ولبنان، واستقر عدد كبير منهم في تركيا (بعد الانقلاب العسكري في مصر)، وعدد من هؤلاء انخرط في المؤسسات التي نهضت، كالمجلس الوطني والائتلاف والهيئة العليا، فهل انقطع هؤلاء عن تشكيلاتهم، وعن الداخل؟، وهل يمكن عدّهم معارضة خارجية؟

من جهة أخرى، وبوجود أكثر من 10 مليون سوري في المناطق التي تتبع للمعارضة، وأماكن اللجوء والهجرة تبدلت تمامًا صورة الداخل والخارج، وتداخلت؛ بحيث لا يمكن اقتصار الداخل، كما يروّج بعضهم، على السكان الخاضعين للنظام، ويمكن الحديث عن وضعهم بصورة تفصيلية.

ونجيء إلى نقطة مهمة طالما يرددها بعض المحسوبين على المعارضة في الداخل، حين يجملون جميع من بقي تحت سيطرة النظام، وكأنه من الموالاة، وفي الخندق الآخر، في حين أن الحقيقة مخالفة تمامًا، فبين هؤلاء أعداد كثيرة ومهمة محسوبة على المعارضة والثورة، وقد عبر الآلاف منهم، إبان سلمية الثورة، عن تأييدهم لها، وخروجهم في التظاهرات المطالبة بالحرية وإسقاط النظام، كما هو حال سكان مدينة حماة، والسلمية، وحتى دمشق، واللاذقية، ومدن ومناطق أخرى، إلى جانب وجود عشرات الآلاف ممن تضطرهم أوضاعهم ومعيشتهم إلى البقاء، وحيث لم تتوافر لكثيرهم سبل الخروج ؛ هجرة ولجوءًا، أو لأسباب تعود إلى توافر شيء من الأمن في مناطق النظام أفضل من تلك التي تتبع المعارضة، وتتعرض يوميًا لمزيد من القصف والقتل والدمار.

قصة معارضة الداخل والخارج ليست حقيقية، وهي حال تدعو إلى مزيد من الفرقة والشرذمة؛ لأن الأمر الرئيس يرتبط بالمواقف السياسية ومدى تعبيرها عن جوهر أهداف الثورة، ومطامح الناس ومطالبهم، إن كان من حيث الالتزام بما رفعته الثورة ولخصته، أو بمتابعة التطورات وتجسيد الخطاب السياسي الأمين، والمعبّر عن حقوق الشعب، وإرادته بالتغيير الشامل، أو من خلال السقف السياسي ومروحته.

وهناك قضية أخرى، طالما يجري توظيفها، وتكيل الاتهامات لمعارضة الخارج -كلها- بأنها صنيعة الخارج، أو تابعة له، أو تأتمر بما يأتيها من تعليمات، وأن “معارضة الداخل” مستقلة، ولا علاقة لها بأي جهة خارجية، أو محاور عربية وإقليمية.

نعم جميع قوى المعارضة فقدت قرارها الوطني، حين تعقًدت المسألة السورية، وطال النزيف دون وجود حل عسكري أو سياسي في الأفق، ثم استلام الدول الكبرى الملف السوري، وهذا الأمر ينطبق على النظام، وبنسبة أكبر من المعارضة، وفرّط بسيادة واستقلالية البلاد، واستقدم قوات احتلال من دول خارجية، وعشرات المليشيات الطائفية من بلدان مختلفة.

هذا الوضع لا يسمح لأحد أن يضع رأسه في الرمال، أو أن يجد المسوّغات لجوانب الخطأ والقصور، وحتى التهاون في قضية استقلال القرار الوطني، وطبيعة العلاقة مع الأشقاء والأصدقاء، ومحتوى الرهانات على الآخر والاعتماد عليه. والذي لا شكّ فيه أن المعارضة جميعها، تتحمل مسؤولية مباشرة في ضمور الاعتماد على الذات، وعلى الشعب أساسًا، وفي بناء علاقات ندّية مع الأشقاء والأصدقاء قائمة على المصالح والقضايا المشتركة، ومن الطرفين. إضافة إلى أن ما يشبه الانقطاع عن فاعليات الشعب، بفئاته المختلفة، والنهوض بالمهمات المناطة بكل طرف وجهة، والفشل في إيجاد تمويل ذاتي وطني.. من العوامل التي تضعف القدرة على استقلالية القرار، وتسهم في ارتهان الوضع للقوى الفاعلة في الملف السوري.

في جميع الحالات، وأمام التحديات الخطِرة التي تواجهها بلادنا، فإن التركيز على التوافقات، والتكامل بين الداخل والخارج، والاستفادة من كل الطاقات والأوضاع الموجودة في الداخل والخارج، هو الذي يجب أن يكون النهج المعتمد لدى الجميع، وبديلًا لتلك المعزوفة التي تزيد الشروخ اتساعًا.

التفاهمات، وتوزيع المهمات، وجدولتها ممكنة، وواجبة؛ كي يصبّ جميع الجهد في مجرى الثورة الموحد.




المصدر