on
أربعة.. من جيل إلى جيل
إبراهيم صموئيل
لا حدود لبلاغة الإيجاز. ولا حدود للاستمتاع بالمنجزات الأدبيّة أو الفنيّة لذلك الإيجاز البليغ. ولهذا قيل -ويمكن أن يُقال في كلّ وقت- خيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ.
في ذاكرتي أعمال لا أنساها؛ إذ فيها من بلاغة الإيجاز والتكثيف ما يكفي ويفي، وما يُغني القارئ، أو المشاهد، عن الاستزادة. أودُّ التوقّف مع بعضها:
فيلم وثائقي قصير جدًا، أُخِذت مادته من نشرات الأخبار، يظهر فيه هتلر حاملًا فأسًا وشتلةً لافتتاح مشروع تشجير، وقد اصطفّ خلفه قادة كبار في الجيش النازي. وحين يشرع الفوهرر بعزق الأرض، في حركة انحناء واستواء، نلمح الضبّاط الواقفين بتأهب واستعداد، وقد راحوا بحركة لا إراديّة يدفعون بأكتافهم ويرتدون، بتساوق تامّ مع حركته، كما لو كانوا -هم أيضًا- يعزقون الأرض على غرار ما يفعل.
ومشهد من شريط إخباريّ أيضًا، ولكنّه من العراق بعد إسقاط النظام، وفيه يظهر صدام حسين واقفًا ببزّته العسكريّة، منتفخ الصدر باعتداد ظاهر، وهو ينفث دخان سيجار كوبيّ، سائلًا عزت الدوري عن أخبار مؤتمر القمة العربيّة. أمّا الأخير- نائبه الممنوح حقّ التوقيع عن صدّام بطبيعة الحال- فكان يقف أمامه مذعورًا، مُتلعثمًا، منكمشًا على نفسه، وقد غرق نصف رأسه في قبَّعته الشهيرة، كما لو كان مجرمًا في محاكمة ميدانيّة.
ورسم كاريكاتوريّ، يصوّر أبًا سجينًا، وابنه الصغير خارج السجن. وفيما أخرج الأب ساعديه من خلل قضبان النافذة، ودفع بهما إلى أقصى إبطيه، مادًّا أصابعه بتوتر؛ كان ابنه قد تطاول على رؤوس أصابع قدميه، دافعًا بزنديه الغضّين إلى أقصى ما يستطيع نحو أبيه… بيد أن مسافة، قصيرة جدًا، تبقى حائلة دون تلامس الأصابع؛ لا الأب بقادر على تجاوزها، ولا الابن كذلك.
وفيلم إيرانيّ قصير جدًا، يعرض مُدرّسًا يدخل إلى طلاّب صفّ -يبدو أنهم في المرحلة الإعداديّة- وهو مُتجهّم الوجه، يُنقّل ناظريه في وجوه الطلاّب بما يشبه الوعيد والتهديد، ثمَّ يستدير نحو السبّورة ليكتب بخطّ واضح (2+2=5) مشيرًا إلى الطلاّب بأن يُكرروا قراءة المعادلة الحسابية.
وحين يعترض أحد الطلاّب قائلًا: “ولكنْ، 2+2=4 يا أستاذ!” ويصرّ على كلامه، يأمره المدرّس بالسكوت وعدم الاعتراض والإقرار بالنتيجة خمسة. لكنّ الطالب -وبإصرار بريء- يؤكّد قوله، رافعًا أصابعه عاليًا؛ كي يُشهِد زملاءه على صحة استنتاجه، فما كان من المدرّس إلاّ أن غادر الصفّ، ثم عاد مع ثلاثة طلاّب، يتّخذون وضعيّة فرقة إعدام، ويقومون -من جرّاء عدم تراجع الطالب عن اعتراضه- بما يشبه حركة إطلاق النار عليه.
يُحمل الجثمان -وسط ذعر الطلاّب- إلى خارج الصفّ، ليُجيل المدرّس ناظريه -من جديد- في وجوه الطلاب، كما لو كان يتهدَّدهم: هل من معترض آخر؟! فيلوذ الجميع بالصمت المبين، ثمّ يردّدون خلف مُدرّسهم بصوت واحد: 2+2=5
أحد الطلاّب كان يدوّن المعادلة في دفتره، وما إنْ انتهى من كتابتها؛ حتى أوقف رأس قلمه -هُنيهة- عند الرقم خمسة. بعدها، يُحرّك يده بقوة شاطبًا النتيجةَ مرّات متتالية، ومن ثمّ؛ مُثبّتًا -بعزم ووضوح- الرقم أربعة.
المصدر