on
التموضع الإسرائيلي الجديد في القضية السورية
عمار عيسى
“إسرائيل” الحاضرة الغائبة في قضية الثورة السورية، اللاعبة بصمت، لحساسية كلامها، تضرب عندما تشعر بأدنى خطر يهدد مستقبلها وينغص عليها تطورها، خطوطها الحمر حادة غير مثلومة، تناور وتتموضع في المكان الملائم عندما تتضارب المصالح وتتقاطع أحيانًا، تعرف متى يطرق الباب وعلى من، تراقب الثمرة وتصوغ خططها للوصول إليها قبل الجميع، وتحفظ حصتها منها عندما تنضج.
لم تفاجئ ثورة آذار/ مارس 2011 في سورية السوريين أنفسهم فحسب، بل فاجأت الإقليم كله، وجذبت نظر الدول الكبرى. أخذت “إسرائيل” موقعها واختارت الصمت، والمراقبة عن كثب للتغيرات التي تحصل في الخاصرة، حيث الجبهة التي ارتاحت “إسرائيل” من ثقلها وتحركاتها لعقود، في ظل سلطة ضمنت مطلب إسرائيلي حيوي، وهو حدود آمنة في هضبة الجولان.
هذا الصمت والترقب مرده عِلم “إسرائيل” بحساسية الشعب السوري تجاهها؛ بسبب الجولان المحتل أولًا، والقضية الفلسطينية، والدور الريادي للشعب السوري فيها ثانيًا، وضبابية البديل، وعتمة المشهد، وعدم حصولها على ضمانات لاستمرار الاتفاقيات المبرمة التي عقدها النظام السوري عام 1974 (وقف إطلاق النار وفصل القوات) سابقًا، وحفاظه على “ستاتيكو” حالة الـ “لا سلم” والـ “لا حرب” التي تصب في صالح “إسرائيل”، وما يمكن أن تؤول إليه الأمور ثالثًا.
بقي الغموض يلف الموقف، واستمرت السياسة الإسرائيلية تجاه سورية على هذا المنوال، على الرغم من محاولات النظام السوري الوظيفي المتشابك إقليميًا ودوليًا، ومحاولاته العزف على وترها، باتهامها أنها هي من تتآمر وتحرك المتظاهرين لإسقاطه تارة، ومحاولته إثارة بلابل على الحدود تارة أخرى. في تلك المرحلة عمدت “إسرائيل” إلى اللعب من الخلف، والتنسيق مع الدول المؤثرة في الصراع؛ لتحقيق مصلحتها، قافزة على معادلات الصراع المحلي، إلا ما ندر (إذ عمدت محليًا إلى أنسنة دورها في سورية، عبر تقديم المساعدات والعلاج للجرحى على الحدود، وإدانة النظام السوري وهمجيته في قتل شعبه في أكثر من مناسبة).
لاشك في أن “إسرائيل” ككل الدول المتدخلة، تراجع حساباتها في الموقف من سورية كلما حصل متغير جديد، فبعد مجيء إدارة ترامب ووضعه أمن “إسرائيل” على جدول الأولويات، أضحت الانعطافة الإسرائيلية واضحة وأعادت هيكلة الموقف بما يتلاءم والتطورات، كان هو العنوان الرئيس للسياسة الخارجية الإسرائيلية، وأحد أهم مؤشرات تلك الانعطافة اعترافها صراحة للمرة الأولى بالضربة العسكرية مساء الخميس 23 آذار/ مارس وإدارة ظهرها لكل الطلبات الروسية بالتوقف عن القصف، وكان الرد بأنه متى توفرت المعطيات سنضرب، بعدما كانت تكتفي بسياسة الغارات الصامتة التي شنتها سابقًا.
هذا الخروج عن الكلاسيكية في التعامل الإسرائيلي مع الملف السوري، يقينًا منها أن هذه السياسة لن تجدي نفعًا، ولا سيما أن الإقليم يمر بتغيرات يجب أن تشارك في رسم أو صوغ خطوطه العامة على الأقل، قد يحمل مقدمات لتدخل إسرائيلي أكبر، تقتنص فيه “إسرائيل” الفرصة لضربة خاطفة مؤشراتها ومسوغاتها موجودة:
الواقع الدولي والإقليمي والمحلي المؤاتي الذي يذكرنا بالواقع الدولي والمحلي حين قامت “إسرائيل”، ومارست سياستها التوسعية والعدوانية واحتلال أراض عربية، الموقف الأميركي الداعم، وتعاظم البعد الإسرائيلي وأمنها في السياسة الخارجية الأميركية، والمزاج الإقليمي الرافض لإيران وسياستها العدوانية المتقاطع مع الرغبة الإسرائيلية.
أمن “إسرائيل” والخطوط الحمر
أمن “إسرائيل” تحققه استراتيجية بقاء القبان يميل لمصلحتها في الصراع العربي الإسرائيلي، فلا تتأخر لحظة عندما تشعر أن الميزان قد يميل إلى غير مصلحتها. حاول النظام أن يرسل رسائل كثيرة إلى الدول المؤثرة والمهتمة بأولوية أمن إسرائيل، من أن وجوده هو الضامن لذلك الأمن، وهذا ما عبر عنه ابن خال الأسد، رامي مخلوف، (بأنه لن يكون هناك استقرار في إسرائيل ما لم يكن هناك استقرار في سورية في أيار/ مايو 2011) في بداية الاحتجاجات علنًا، ولم يتوان عن إرسال “متظاهرين” إلى حدود الجولان لصرف الأنظار عما يحدث في بلده أولًا؛ وليعزز فرضيه أن بديله الفوضى، وفعلًا بعد تدخل إيران وميليشيا “حزب الله” في سورية واختراقها بنية النظام السوري؛ لقمع الثورة، واستجلاب ميليشيات طائفية في طول البلاد وعرضها، والمحاولات الإيرانية للوصول إلى حدود الجولان وشحنات الأسلحة التي حاولت إيران نقلها إلى ميليشيا “حزب الله”، كل هذه التصرفات ووجهت برد إسرائيلي مباشر بقصف شحنات أو قياديين بارزين في ميليشيا “حزب الله”، ولكن بعد هذه الانعطافة وملائمة الواقع الدولي، يبدو أن منع نقل السلاح إلى ميليشيا “حزب الله” عبر الأراضي السورية، لم يعد هو الهدف الاستراتيجي، إنما تغير ليتماهى ويتسلح بالموقف الأميركي، ويصبح الوجود الإيراني في سورية كله مرفوضًا، خصوصًا بعد نية الأخيرة إقامة قواعد على المتوسط، وتغيير قواعد الاشتباك في جنوبي سورية، هذا الموقف الذي انعكس على سياسة “الحزب” الذي بدأ يستشعر الخطر، ومحاولاته شرعنة وجوده عبر اتفاقات محلية في القلمون، وفتحه ملف عودة اللاجئين؛ ليقوم بحركة انسلالية إلى الوراء، باتجاه حدوده؛ رغبة منه في نفض الذرائع الإسرائيلية وإعطائه رسائل طمأنة، بأن موضوع الانسحاب ليس خطًا أحمر كما ادعى أمينه العام.
الواقع الفوضوي والميلشياوي وعدم الاستقرار
على الرغم من الرغبة الإسرائيلية، بلا شك، في أن تكون سورية بلدًا ضعيفًا وعلى الهامش، وعملت لذلك. ولكن ما يهمها الضعف المنظم وعدم الاستقرار المنضبط وليس وجود ميليشيات عابرة للحدود.
فشل “إسرائيل” في إقناع الكرملين للتخلي عن إيران، وتحجيم نفوذها في سورية، ولا سيما في الزيارة الأخيرة لنتنياهو إلى موسكو، على الرغم من التغاضي الروسي عن الهجمات الإسرائيلية السابقة، إن لم نقل بالتنسيق المباشر معها، لامست رغبتها وخصوصًا بعد طفو الخلافات التكتيكية، واختلاف الأولويات بينها وبين إيران، بعد معركة حلب، إضافة إلى أن موسكو -الآن- بعد فشلها في تنظيم الورقة السورية سياسيًا؛ لجعلها ورقة باليد؛ تحسبًا لأي صفقة مع واشنطن، ازدادت الحاجة إلى الميليشيات الإيرانية، ولا سيما بعد الضبابية الأميركية، وعلمها أن الطريق للمساومة مع البيت الأبيض ما زالت طويلة، وأنه يجب أن تكون إيران في مركبها ورقة يُستغنى عنها لأميركا في الوقت الملائم، فموسكو غير معنية بتقديم تنازل كهذا بما يرفع من رصيد إسرائيل، هذا ما قوبل بتعنت إسرائيلي عبر عنه نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي بالقول: إن الغارات ستبقى مستمرة ما تطلبت الحاجة لذلك.
لا يمكن استشراف أو معرفة طبيعة هذا التدخل، إن كان مباشرًا أو غير مباشر، وهل هي ضربة ستصفي ميليشيا “حزب الله” أم تقلم أظافره الإيرانية؟، وهل سيكون الحزب وحده هو الهدف، أم ستتوسع القائمة؟، إضافة إلى أن الحدود غير واضحة بين البعد الإقليمي التوسعي، والبعد الأمني للسياسة الخارجية لإسرائيل، لكن بعد هذه الانعطافة، يبدو أن الأولوية أصبحت للبعد التوسعي، وخاصة بعد أحوال الضعف والهشاشة التي نعيشها ونقص الوجود العربي وفاعليته. إن ديمومة “إسرائيل” إذ تبقى متفوقة على جيرانها، وضرب الشعوب ضربات متواترة ومدروسة تحقق لها مزيدًا من طموحها الاستعماري، هذه الشعوب التي طالبت بمزيد من الحرية والعدالة وإقامة الدولة الوطنية الديمقراطية، فأنهكت بمسوخ حكام وميليشيات طائفية ادعت المقاومة والممانعة يومًا، فنهبت البلاد وفتحتها على مصراعيها لكل قوى الشر التي تتربص بها.
المصدر