on
“إعلامٌ جديد، أخبارٌ قديمة” عصر تغيير الشكل للعب على المضمون
مالك ونوس
وقعت يدي -أخيرًا- على كتابٍ صادر في لندن، باللغة الإنكليزية، بعنوان: “إعلام جديد، أخبارٌ قديمة“، مع عنوان فرعي هو: “الصحافة والديمقراطية في العصر الرقمي” (New Media, Old News, Journalism & Democracy in the Digital Age). ونُشرَ الكتاب قبل سبع سنوات، في حين يبدو كأنه قد كُتبَ قبل أيام؛ بسبب راهنية الموضوع المطروح، وبخاصة موضوع الإعلام الرقمي الذي كاد يطغى على أشكال الإعلام القديم، على الرغم من عدم توقف هذا الأخير، عن مجاراة كل جديد، من ناحية شكل الطرح ودخول الصحف العالم الرقمي. إضافة إلى تطور صورة المرئي وإخراجها، علاوة على تطور أجهزة البث والاستقبال والعرض.
والكتاب الذي صدر سنة 2010، عن دار ساغ البريطانية (SAGE Publications Ltd)، ويقع في 232 صفحة، عبارة عن ثمرةَ مشروعٍ بحثيٍّ، أجراه فريقٌ مكوَّنٌ من عشرات الباحثين والباحثين المساعدين والإداريين والمنسِّقين وغيرهم. وهو من تحرير الباحثة والكاتبة البريطانية، نتالي فينتون (Natalie Fenton)، المعيدة في قسم الإعلام والاتصالات في كلية غولدسميث في جامعة لندن.
نشأ المشروع برعاية مركز “غولدسميث ليفرهولم” للبحوث الإعلامية التابع لجامعة لندن، وبمنحة قدمتها جمعية “ليفرهولم تروست” البريطانية للبحوث. كان الهدف من المشروع الخروج ببحث معمَّقٍ وشامل ومتكامل لموضوعٍ، كثُر الحديث فيه كثرةً متناثرة، فضم هذا الكتاب ثمرة ذلك المشروع. فيه أحد عشر بحثًا، تنضوي في خمسة محاور رئيسة، هي فصول الكتاب، إضافة إلى المقدمة التي كتبتها المحررة، وتُعدّ بحد ذاتها بحثًا.
تزامن هذا البحث مع الفترة التي أخذ يتجدد فيها الاهتمام الأكاديمي بالصحافة وممارستها، وبالإعلام الجديد، وبخاصة الإعلام الإلكتروني. وتزامن مع التغير في بيئة وسائل الإعلام. وقد أجري البحث في نطاق واسع على مستوى بريطانيا، وشمل عددًا كبيرًا من وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، إضافة إلى الإعلام الجديد، إعلام الوسائط المتعددة ومواقع الإنترنيت الإخبارية. وأسهم في البحث طيفٌ واسعٌ من الكتَّاب والباحثين والصحافيين عبر مقابلات واستبيانات. وكما تقول المحررة، فإنه نادرًا ما نجا صحافي واحد من مقابلة أحد الباحثين العاملين في هذا المشروع. والتأم كثير من الاجتماعات والمؤتمرات ورحلات العمل، بل والنقاشات عبر البريد الإلكتروني والهاتف.
وأسهم في تجميع الأفكار في الكتاب عشرة من الأساتذة الجامعيين والباحثين في مراكز أبحاث وجامعات عالمية مرموقة، كان عملهم ثمرة ذلك الجهد. وقد جاء الجميع إلى المشروع من وجهات نظر واهتمامات وأفكار متباينة؛ ما زاد من الجدال والبحث النقدي والتحليل وإعادة الجدال، متمسكين بحسهم الأكاديمي لتعميق الدراسة وإغنائها بالجدل وإعادة التحليل. وعلى الرغم من هذا العدد الكبير من المساهمين في الكتاب، إلا أنه “ليس عملية تجميع تحريري لفصول بعضها مستقل عن بعض”، كما تقول الكاتبة؛ إذ “أسهم في كتابته كل فريق البحث الذي يشارك في هذا التحقيق. ومع أن كل فصل يدرس بعدًا مختلفًا من البحث، إلا أنها جميعًا مترابطة بعضها مع بعض بإحكام”.
اعتمدَ البحثُ النقدَ الاجتماعي العياني، مع التحليل التنظيمي الجزئي، للوصول إلى فهم نقدي ومركَّب لطبيعة الأخبار والصحافة الإخبارية في العصر الرقمي. وحرص الفريق على أن ينصبَّ اهتمامه الأساس في هذا الجهد، على إخضاع الطرق التي تسهم فيها وسائل الإعلام الجديدة والأخبار والصحافة، في الممارسة السياسية الديمقراطية، وإرضاء المصلحة العامة لفحص تجريبي. كما يعرض للمنظورات المستخدمة في طرح التساؤلات الواردة في الكتاب.
يعرض الكتاب لانبلاج هذا العصر، العصر الرقمي وصحافته وإعلامه. ويستكشف الكيفية التي أعادت فيها التغييرات التكنولوجية والاقتصادية الاجتماعية، تشكيل الصحافة الإخبارية، وعواقب هذه التحولات على الممارسة الديمقراطية، في جميع المجتمعات التي ظهرت فيها هذه الوسائل، وتغير طبيعة علاقات هذه المجتمعات بعضها ببعض؛ نتيجة هذا الظهور. ولا يعزو الكتاب التغيرات إلى التكنولوجيا وحدها، بل إلى تضافر قوى عديدة، يمكن أن تكون مرهونة بأوضاع محلية في كل الأوقات.
يتحدث الكتاب عن الفورة التكنولوجية وسطوتها على مختلف أنواع النشاط الإنساني، وعلى التحول الجذري الذي طرأ على الإعلام؛ نتيجة هذه الفورة. ويركز على تأثر وسائل الإعلام والأخبار التي تنتجها، بالاقتصاد السياسي وتمازجهما أحيانًا، وفي كثير من الأحيان تماهيهما. ويشرح للتغير الذي طرأ على معايير ممارسة مهنة الصحافة، وتشكُّل بيئة جديدة للعمل الصحافي. ويلفت الانتباه إلى تغيُّر معايير مهنة الصحافة، فأصبحت تجري التضحية بالدقة مقابل السرعة، على سبيل المثال، وغير ذلك من المعايير، علاوة على مغازلة الصحافة عوامل السوق، إضافة إلى تنوع مصادر الأخبار والطفرة في عدد هذه المصادر.
ويلفت -أيضًا- إلى نشوء مصادر جديدة مختلفة، ومكونات جديدة في الإعلام، وبروز المواطن الصحافي، ودخول هذا المواطن في صلب صناعة الأخبار، في ما بات يُعرف بالصحافة التشاركية، أو “صحافة المواطن”، وزيادة دور المواطنين الصحافيين والمنظمات غير الحكومية، بعدّها مصادر جديدة للأخبار، تميزت بالفاعلية في كثير من الحالات. كذلك يعرض لبروز كُتَّاب، باتوا يُعرفون بالكُتَّاب المُجمِّعين الذين يستقون معلوماتهم من المصادر المفتوحة، ويعيدون إنتاجها، دون جهد تحليلي أو بحثي. كل ذلك أدى إلى سحب قدرة تكوين الرأي العام من أيادي القوى المسيطرة على المجتمعات والمالكة -عمليًا- للإعلام التقليدي عبر كل العصور السابقة.
ويلفت الكتاب الانتباه -أيضًا- إلى غياب رقابة هيئة التحرير، نتيجة الكم الهائل من الأخبار، وعدم القدرة على الإحاطة بكل ما يرد إليها، ومن ثم؛ فقدان كثير من الصدقية والمهنية عند بثها. كذلك هنالك إشارة إلى الورطة التي وضع الواقع الحالي للإعلام، بعض وسائل الإعلام التقليدية فيها، فتنشأ الحيرة لدى وسيلة إعلامية، بين: إما منع بث خبر ما، أو اللجوء إلى التلميح إليه فحسب، في الوقت الذي يخرج فيه هذا الخبر كاملًا عبر وسيلة أخرى.
هنالك -كذلك- تركيزٌ في الكتاب على الأثر الذي تركته وسائل الإعلام الجديدة على السياسة والعمل السياسي، إذ يبرز عدم تأثر أصحاب التيار السائد (Maistream Media)، بالفورة التكنولوجية من ناحية المحتوى الإخباري. وهنا، تظهر غلبة مصالح دولٌ كثيرة على الحقيقة، عند التعاطي الرسمي مع ما تخرج فيه هذه الوسائل من قضايا، كانت في المجمل ممنوعة من الطرح في ما مضى، في وسائل الإعلام التقليدية. ونلاحظ عدم انعكاس الجدة التكنولوجية على المحتوى الإخباري، عند أصحاب هذا التيار. من هنا يأتي سعيُ كثيرٍ من القوى العظمى إلى زيادة تأثيرها في المحتوى الإخباري، وإعادة إنتاجه، وفق حسابات دولية واقتصادية وحيوية أخرى، بدلًا من التأثر به والعمل وفق ما يكشفه.
وفي النهاية يبين الكتاب أنه، على الرغم من كل الإمكانات التكنولوجية، ما تزال قوى السوق والقوى المسيطرة تضع القيود الكبيرة أمام وسائل الإعلام.
إنه كتاب ضروري لكل المهتمين بماضي الصحافة خصوصًا، والإعلام عمومًا، وحاضرهما ومستقبلهما وتأثيرهما والعوامل التي تؤثر فيهما. قال عنه دان هالين، الأستاذ الجامعي في جامعة سان دييغو، كاليفورنيا: “أهميته تنبع من كونه لا يشير إلى أن هنالك تغيُّرًا أحدثته شبكات الإنترنت كما تفعل الدراسات الأخرى، بل يدلنا على ذلك التغيير دلالة أكثر منهجية وتنظيمًا”. ويقول عنه غريغ فيلو من جامعة غلاسكو البريطانية: “يوصلك إلى نتيجة وهي أنه: لماذا يكون فهمنا للإعلام الحديث والصحافة في هذه الأوقات بالذات أكثر ضرورة من أي وقت مضى، إنه كتاب ضروري للمهتمين ودارسي الإعلام الحديث والصحافة”.
أما محررة الكتاب، نتالي فينتون، فمعيدة في قسم الإعلام والاتصالات في كلية “غولدسميث” في جامعة لندن، وتعمل -أيضًا- بصفة مدير مشارك في مركز “غولدسميث ليفرهولم”، للبحوث الإعلامية التابع للجامعة، في موضوع الفضاءات والاتصالات والتحكم. وهي –كذلك- المدير المشارك في مركز غولدسميث لدراسة الإعلام العالمي والديمقراطية. وقد نشرت، على نطاق واسعٍ، بحوثًا حول موضوعات تتعلق بالإعلام والسياسة والإعلام الجديد، إضافة إلى أنها مهتمة اهتمامًا خاصًا بإعادة النظر في مفهومات الثقافة العامة والمجال العام والديمقراطية.
المصدر