on
استدارة دونالد ترامب: أسباب داخلية تحكم خيارات خارجية
رحّبت غالبية، إن لم يكن كافة الأوساط الأميركية، “بالنقلة النوعية” التي قامت بها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أخيراً، في ما بدا وكأنه إعادة صياغة لتوجهاتها وعلاقاتها مع القوى الكبرى وحلف شمال الأطلسي، والتي بلغت ذروتها في لقاءات مسؤولين أميركيين وروس الأربعاء الماضي، الذي وصفه رئيس مجلس العلاقات الخارجية للدراسات والأبحاث، ريتشارد هاس، بأنه كان “يوماً صحياً”.
توصيف تشاركه فيه دوائر وجهات من مختلف التلاوين والمواقع المؤيدة والمعارضة للبيت الأبيض، والتي لطالما أقلقها “التودد” الذي أظهره ترامب نحو نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، منذ الحملة الانتخابية. وزاد من ترحيب هذه الجهات أن التحول عن هذا الخط بدا، من خلال حيثياته وما رافقه من تعابير ملموسة، بأنه منهجي جاد، وبما يرشحه، ولو مع التحفظ، لأن يكون بوصلة لسياسة خارجية هادفة، وبعيدة عن التذبذب والتقلب الذي تميز به ترامب، في هذا المجال وغيره.
وفي هذا الإطار، توقف المراقبون عند ثلاثة مواقف توالت فصولها بسرعة وبصورة لافتة. أولها، التغيير في موقف ترامب من الصين، والذي انقلب من وصمها بأنها “مناور نقدي” تتلاعب بقيمة عملتها لخفض أسعار بضائعها وبالتالي تسهيل ترويجها في الخارج، إلى وضعها في منزلة الشريك الذي يستحق بناء علاقة تجارية سليمة معها. وسوغت الحاجة إلى دور بكين الكابح لكوريا الشمالية في هذا الانتقال. وثانياً، تراجع الرئيس عن موقفه من حلف شمال الأطلسي، الذي كان قد وصفه بأنه “عفا عليه الزمن”، واعترافه، خلال مؤتمره الصحافي مع الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، بأهمية “الأطلسي” وتجديد الالتزام به وبدوره. وتمثل ثالثاً بالموقف الذي عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي، ريكس تليرسون، في موسكو وأصر عليه، بعد اجتماعه مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف وبوتين، بخصوص الهجوم الكيميائي على خان شيخون وضربة مطار الشعيرات السوري، والمتضارب تماماً مع الموقف الروسي. ثم أعاد ترامب التأكيد على هذا الأمر، خلال مؤتمر صحافي، الأربعاء، وعلى هبوط حرارة العلاقات مع موسكو إلى أدنى درجاتها، ما يشير إلى أن الآمال بعلاقات مميزة، كان من المأمول نسجها مع بوتين، قد انحسرت.
هل نزلت صحوة على ترامب؟ وهل هي واحدة من قفزاته التي يجري مسحها بين ليلة وضحاها؟ وهل صحيح أن هذا الانعطاف جرى بتأثير صور أطفال قتلوا في الهجوم الكيميائي على خان شيخون كما زعم؟ المسألة تبدو أبعد من ذلك هذه المرة. فترامب يقترب من نهاية المائة يوم الأولى من ولايته، برئاسة متخبطة تراكمت خسائرها. وقد كشف ذلك عن عطبين أساسيين: أن خطابه الانتخابي لا يصلح للحكم، وأن فريقه الأصلي في البيت الأبيض، الذي أتى به لترجمة هذا الخطاب، معطوب، وانتهى بالانقسام إلى مجموعات متصارعة باتت قصصها حديث الساعة في واشنطن. ويبدو أن إقالة مستشار الأمن القومي، الجنرال مايكل فلين، أخيراً لن تكون الأخيرة، إذ إن على رأس المرشحين مستشاره الاستراتيجي، ستيفن بانون الذي أنذره ترامب بعد اشتباكه مع صهره جاريد كوشنر. كل هذه التطورات أدت إلى استدارة ترامب نحو الاستعانة برموز الإستبلشمنت والإصغاء إلى توجيهاتها، من باب أنه لا غنى له عن خبرتها، وأن تصوراته الرومانسية، التي ساهمت في حمله إلى الرئاسة، انتهت مهمتها ولم تعد مقبولة ولا بد له من تغيير وجهة سيره. من هنا كانت حركة التغييرات التي أجراها، وكان أهمها تعيين الجنرال هربرت ماكماستر كمستشار لشؤون الأمن القومي مكان فلين، وفي العلاقة مع أركان الأمن القومي والسياسة الخارجية، وبالتحديد مع وزير الدفاع، الجنرال جيمس ماتيس، الذي بدأ ترامب يعمل بإرشاداته. وشمل ذلك، ولو إلى حد أقل، تليرسون الذي حظي بالتقدير من سائر الدوائر، لأدائه اللافت في موسكو. وليس صدفة أن يحظى هؤلاء المسؤولون، خصوصاً ماتيس وتليرسون، بالثناء والإعجاب من جانب المعنيين بالسياسة الخارجية، خصوصاً في الكونغرس، والذين دأبوا على مطالبة ترامب بوجوب التصدي لروسيا، خصوصاً في سورية.
هل عودة ترامب إلى المؤسسة، والتخلي عن تمرده عليها، جاءت نتيجة مقايضة معها، تقوم على اعتماده سياسة متشددة مع موسكو مقابل صرف النظر عن متابعة قضية العلاقة المحتملة لفريقه الانتخابي مع الروس؟ أم أن هذا الأمر اقتضته العودة إلى الحسابات المتعلقة بالاستراتيجية الأميركية الكونية؟ ربما الاثنتان، مع اعتبارات جيوسياسية أخرى، لكن الواضح أن فصلاً جديداً من التوتر بدأ مع موسكو، خصوصاً في سورية المرشحة للمزيد من الهزات.
صدى الشام