التجنيد المتوحش… إعدام أمة


محمد حبش

التجنيد أحد أكثر المآسي الإنسانية ظلمًا وتوحشًا، وهو مأساة مستمرة تُرتكب بعنوان السيادة الوطنية، وتُسوَّغ حقوقيًا ووطنيًا بأنها ضرورة أمنية وشهامة اجتماعية وبسالة نوعية، وأنها عين ساهرة لعين نائمة، وأنها الحصن الأمين للوطن من خصومه وأعدائه.

ولكن هذه العناوين البراقة تخفي وراءها ملامح توحش إنساني عديم الرحمة، حين يكون السوق لحرب أهلية طاحنة، لا يمكن تسويغ غاياتها ولا مقاصدها ولا وسائلها، يقاد إليها الشباب أمام عيون أمهاتهم وأخواتهم؛ ليكلفوا بعد ذلك بالمشاركة في حملات باطشة ضد أسرهم وأحيائهم وأهاليهم، ويوضع المقاتل أمام أشد الخيارات ألمًا وقهرًا وهو: اقتل أو تُقتل، ولا شيء آخر!!!

ذات يوم سيذكر التاريخ حملات التجنيد كما تذكر حملات استجلاب العبيد من أفريقيا المنكوبة إلى الأرض الجديدة في أميركا، حين كان الإنسان يُصطاد بالشباك والرماح والبنادق، ثم يوثق بالحبال ويقاد في طوابير القهر والحرمان، وينتزع من أرضه وأهله وأحبته بعنوان حضاري براق، وهو بناء الحضارة الجديدة، وتحسين أحوال هؤلاء البائسين وتأمين الطعام والسفاد لهم.

مع أن المعنى الـ لا أخلاقي للتجنيد ظاهر للعيان، فهو ضد إرادة الإنسان بكل تأكيد، وهو قهر للشباب في لحظة طموحهم وانطلاقهم، وهو إقحام للإنسان في حروب لا يؤمن بها، وهو فرض لإرادة الأقوى، وهذا كله مخالف لشرعة الأمم المتحدة، ولكن الأمم المتحدة ظلت تجامل المستبدين من الحكام والدول؛ حتى تضمن انتسابهم وبقاءهم في الأمم المتحدة، ولا سيما بعد فشل عصبة الأمم؛ لذلك، لم تفعل شيئًا ضد التجنيد الإجباري الذي لا يقل سوءًا من الاستعباد والاسترقاق، ولم تطرح معاهدة دولية لمنع التجنيد الإجباري كما طرحت معاهدات للخلاص من العبودية والمخدرات والتمييز، مع أن إثم الاسترقاق والتمييز أهون ألف مرة من سوق الإنسان إلى التجنيد في حرب لا يؤمن بها، وسيكون التجنيد أفظع إثمًا وأشد توحشًا حين تكون الحرب المزعومة حربًا ضد أهلك وبلدك وقريتك، وهي بالضبط الحرب التي تشهدها سورية المنكوبة.

وعلى الرغم من أننا لا نملك إحصاءات دقيقة، ولكن من المؤكد أن تشريد الشعب السوري وتيهه في الأرض عائد في الدرجة الأولى إلى رفضه الحرب، قاتلًا أو مقتولًا، مجندًا أو ضحية، ولا أشك أبدًا في أنه إذا كان نصف الناس -في أقل تقدير- قد تركوا البلاد بسبب رفض التجنيد؛ فإن ثمانين في المئة منهم صرحوا بأنهم لا يريدون العودة بسبب التجنيد.

ليس التجنيد مشكلة طرأت في الحرب، وإن كانت الحرب قد أظهرت بشاعتها وقهرها، ولكنها في أمد العقود الخمسة الأخيرة كانت أكبر طارد لمواهب البلاد من الشباب، إذ غدا السفر أول الأحلام التي تستيقظ في خيال الشاب السوري، ويمكن القول إن أمنية السفر والخلاص كانت على رأس طموحات الشاب السوري قبل أن يساق للخدمة الإلزامية، ومن المؤلم أن نعترف بأن معظم الاغتراب السوري كان يهدف للنجاة من الخدمة العسكرية الإلزامية؛ إذ يختار الشاب أن يبدأ حياته بعيدًا من وطنه؛ لأنه لا يريد أن تضيع زهرة شبابه في خدمة تنسحق فيها كرامته، ويمنع فيها من أبسط حقوقه الطبيعية، بما في ذلك حقه في الصلاة والشعائر.

يسمى هؤلاء في عرف النظم الاستبدادية فارين من الزحف، متقاعسين عن خدمة الوطن، وربما يمنحهم الاستبداد -بلا حياء- لقب خونة وعملاء، ولكنهم في الواقع يستحقون الإنصاف بوصفهم شبانًا لا يؤمنون بالحرب ولا يريدون أن يكونوا قاتلين ولا مقتولين، ولا سيما حين تكون هذه الحروب حروبًا سياسية فارغة، عجزت خلال أربعين عامًا من الاستعداد والإنفاق والتدريب عن تحرير شبر واحد من الأرض المحتلة.

وسيكون السؤال دومًا: كيف تحمون أوطانكم من العدو، وهل ستقوم هذه الحجج الفلسفية والمواعظ الدينية برد كيد الطامعين في بلادنا؟ ومع أن فكرة العدو التي يتشبث بها الاستبداد لم يعد لها وجود حقيقي لدى الأمم الناجحة، ولكن مع ذلك؛ فإن حماية الوطن من كل خطر دومًا بجيوش نوعية احترافية متخصصة، يمضي إليها من يؤمن بهذه الحروب ويقتنع بغاياتها، ولا شك في أن الاقتصار على المتطوعين دون الإجباريين سينعكس على أداء الجيش، وسيجبر الاستبداد على تجنب كثير من الحروب، وسيفرض على المستبد الخروج من حروب كثيرة، والاقتصار على الحروب العادلة التي يمكن تسويغها، ويهب الشعب تلقائيًا للمشاركة فيها.

وفي سياق دراسة دقيقة لتبعات التجنيد نحتاج إلى جواب محدد من مراكز الإحصاء للإجابة عن أسئلة محددة:

ستكون الأجوبة كارثية في مشهد الهدر والقهر الذي تسبب به التجنيد الإجباري على الوطن ماديًا وبشريًا واجتماعيًا.

ويجب التنبيه إلى أننا نتحدث -هنا- عن التجنيد وقت السلم، أما السوق الإجباري في الحرب الأهلية؛ فهو عمل إجرامي بكل معنى الكلمة؛ إذ يكلَّف المقاتل بالقتال ضد أهداف مدنية، ربما كانت فيها أسرته وأهله وأجبته، من دون أن يكون له أدنى حق في الاعتراض أو التحفظ.

نتحدث -بالطبع- عن الجيش بعدّه مؤسسةً وطنية، وهو أمر يعلم كل قارئ، وضباط هذا الجيش ومنتسبوه أيضًا، أنها أبعد ما تكون عن جيشنا التائه، بعد أن بات الجيش أكثر المؤسسات فسادًا -على الإطلاق- في جسد الدولة السورية المنهك، وبعد أن صار سوق (السوق) أكبر مصدر للابتزاز والاسترزاق لدى مافيات معدومة الضمائر، جمعت ثرواتها من التجنيد و”التفنيش” والتعيين والترقيات والانتداب، وغيرها من وسائل الاسترزاق الأسود في الجيوش الفاسدة.

نجحت 98 دولة في العالم في منع التجنيد الإجباري، وتشمل اليابان وكندا والسويد وسائر الدول المتقدمة والمتحضرة، وعلى الرغم من تاريخها الأليم في الحروب البينية، ومشاركتها السوداء في الحربين العالميتين، فإنها نجحت في إنهاء التجنيد الإجباري، وتمكنت من بناء جيوش نوعية من المحترفين، تحمي الأوطان ولا تهدر كرامة الإنسان.

ونجحت 19 دولة من دول العالم في أن تبني دولة من دون جيش على الإطلاق، وأغلبها دول صغيرة أمنت حمايتها بمعاهدات مع دول كبرى، وتعيش استقرارا وأمنًا لا مثيل له، فيما نجحت 19 دولة في تحويل الخدمة الوطنية إلى خدمات مجتمعية غير قتالية، وتضم هذه القائمة فنلندا والنرويج والدنمرك والنمسا.

وحددت 31 دولة في العالم الخدمة الإلزامية بما دون سنة واحدة، بينما بقيت القائمة التعيسة التي تلزم أفرادها بالمشاركة في الخدمة العسكرية لمدة تزيد على 18 شهرًا، وهي تضم معظم بلاد الحروب والفوضى في العالم، وفيها سورية والسودان والصومال واليمن وكوريا الشمالية وليبيا وكوبا، وموزمبيق وإسرائيل، وهي دول تلتهب بالحروب ويعيش المواطن فيها ويده على الزناد، ومن البديهي أن ندرك أن عسكرة المجتمع بهذه الطريقة المتوحشة لم تجلب للناس أي سلام، بل عززت عقل الحرب ورهابه وبطشه وبغيه.

لن يكتمل إعلان حقوق الإنسان العالمي إلا بالنص صراحة، ومن دون مواربة على مادتين إضافيتين ضروريتين:

لا يحق لأي إنسان أو سلطة أن تجبر أحدًا على حمل السلاح تحت أي ذريعة، ولا يجوز إنشاء الجيوش الوطنية إلا بالإرادة والاختيار الصريح دون أي إكراه.




المصدر