في ثقافة الخوف

17 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017
6 minutes

عبد الله تركماني

تتحدد ثقافة الخوف بكونها نتاجًا مكثفًا مزدوجًا للطغيان: طغيان السلطة الاستبدادية، وطغيان الموروث الثقافي؛ عندئذ يدخل المجتمع نفق الرعب، القوة، البطش. وكلما ازداد البطش استفحالًا ازدادت النفوس خواء وفقرًا.

وتؤثر ثقافة الخوف في الإنسان الفرد، أو الجماعات، من خلال عدة تجليات، من أهمها:

– ثقافة الوصاية، التي تنزع إلى تعميم وعي زائف يخلق لدى الإنسان شعورًا ملازمًا بالقصور والدونية، وبأنه عاجز أمام نخب مسؤولة عنه وشخصيات تكون موضع رعب وتهيّب كبيرين؛ ما يقوده إلى إهمال حقوقه المدنية والسياسية، وازدراء دوره في الحياة العامة. وإذ تحصر هذه الثقافة علاقتها بالسلطة الوصائية، بصفتها مرجعًا أحاديًا، فهي تتنكر لمفهومات الاختلاف والتباين والنقد، إذ لا مكان فيها لطرح الأسئلة أو إبداء الشك؛ ما يقود في النهاية إلى تسطيح الوعي وإشاعة اللاعقلانية في التفكير، وإلى قتل روح التجديد والمبادرة عند الناس، ومباركة الخنوع والتسليم والرضا.

– ثقافة الحشد، باعتبارها تخديرًا للقدرة على تحليل الوقائع، وفق معايير منطقية عقلانية، واندفاعًا في اتجاه لغة الانفعالات والغرائز. فلا مجال في “ثقافة الحشد” للحوار الجاد والمجدي، لأنّ ما يسود هو صوت واحد، بفعل تلقٍ وحيد الجانب لكلام يصدر من ” قيادة ” هي ” فوق الشبهات “. إنّ ما يصدر عن هذه القيادة ليست آراءً أو أفكارًا، بل أوامر لا بدَّ من تنفيذها؛ لأنها ” تختزن الحكمة والقدرة والقوة والفعل والحسم وكل مفردات الإمساك بوعي الآخرين وطاقاتهم الجسدية والفكرية “.

– الخطاب الشعبوي الذي يفتقر إلى العقلانية، ويقلل من أهمية الفكر الحر، ويحطُّ من شأنه. وتكمن وظيفة هذا الخطاب في التسويغ والتبرير، وطمس واقع الفروقات والاختلافات، واللجوء إلى التلفيق.

ولثقافة الخوف أسباب عديدة: الموروث الثقافي، والنظام التربوي والأبوي، والرقابة الرسمية التي تجسِّدها ممارسات الأجهزة الرقابية لسلطة الدولة الاستبدادية في مجالاتها المتعددة، إضافة إلى الرقابة غير الرسمية، وأغلبها رقابة دينية تمارسها مجموعات متنوعة تدّعي حرصها على القيم الدينية. وكلها لا تخلو من التعصب والتطرف، الذي يجعل من أي اختلاف بدعة وضلالة،‏ ومن كل اجتهاد نوع من الكفر‏،‏ ومن كل إبداع إلحاد يستحق صاحبه العقاب الرادع‏.‏

وحينئذ تؤصَّل جذور الخوف في الموروث الثقافي، وثقافة السلطة، وهيمنة منهج النقل على منهج العقل، وتسويغ الواقع، والدفاع عن فقهاء الرأي الواحد، واستبعاد الآراء البديلة.

وفي هذا السياق، تكمن مشكلة المثقف العربي في الموقف الصعب ما بين قول كلمة الحق، وهذه هي مهمته الأساسية، وبين الخوف من انتقام السلطات، ولا سيما في الأنظمة الشمولية.

وهكذا تبرز نتائج ثقافة الخوف في أغلب الدول العربية، ولكن لا يمكن لأحد أن ينكر الخوف المزمن عند الشعب السوري من المخابرات أو الأمن بعامة، إذ فقدت كلمة الأمن دلالتها الفكرية والمعنوية منذ عقود، حيث يخاف المواطن السوري عند سماعه كلمة الأمن. وهكذا تشكلت حالة خاصة يمكن أن نطلق عليها تعبير “الخوف الأمني”، وكاد أن يصبح رُهابًا. إذ تركت حالة الطوارئ، المعلنة منذ خمسة عقود، آثارها السوداء والثقيلة في حياة السوريين، وكان المثقفون بين أكثر فئات السوريين تأثرًا بها، وهي الحالة التي نجد بعض تعبيراتها الواضحة في ما أصاب المثقفين من أذى، شمل المتابعة الأمنية والاعتقال والمحاكم والسجون، فيما وضع آخرون منهم على قوائم الممنوعين من السفر، وبعضهم ممنوع من العمل أو مطرود منه بالاستناد إلى تعليمات أمنية.

وتعدّ الثقافة التنويرية أحد أهم أشكال المقاومة الحضارية لتجاوز الواقع الذي أفرزته ثقافة الخوف، ومن ثم؛ تخطِّي العوائق للمضي قدمًا نحو المستقبل، تحقيقًا للذات في إطار الإنسانية. ويجب أن ندرك جميعًا أنّ التغيير في العالم العربي يبدأ من سيادة دولة الحق والقانون، وأنّ أحدًا – مهما كبر – ليس فوق القانون، ودون ذلك سنظل نسير من سيئ إلى أسوأ.

إنّ ثقافة الخوف، بكل تجلياتها، تعاني اليوم حالة انكشاف واضطراب، ربما من جراء احتدام تنافس الأوصياء على السيادة والسيطرة، أو لعلَّ السبب يعود إلى ارتقاء وعي البشر، وقد صاروا يتحسسون جيدًا وزنهم، ويستشعرون الدوافع الحقيقية وحسابات المصالح الضيقة التي تقف وراء دعوات احتكار القيم والوصاية عليها؛ ما يحث الغيارى على أوطانهم ومستقبل مجتمعاتهم إلى إعلان حملة مقاومة جدية لآليات الخضوع، أيًا كانت أشكالها، نحو تعميم ثقافة تحررية يكون الإنسان مركزها وغايتها. وخير ما يخلخل بنيان ثقافة الخوف وينصر ثقافة الحريات واحترام التنوّع والتعددية والرأي الآخر، تقدم ظواهر دالة على الرشد الاجتماعي، مثل العقلانية والاعتدال وتحاشي الغلو والتعصب والتطرف.

ومن المؤكد أنّ لا سبيل إلى التخلص من الخوف إلا بتعلّم دروس ربيع الثورات العربية، وإحياء مؤسسات المجتمع المدني وما تقتضيه من: التعددية الفكرية والسياسية، وحقوق الإنسان، ودولة الحق والقانون، والديموقراطية. وإلا فإنّ الخوف سيعشعش، ليس في خلايا المجتمع فحسب، بل وفي خلايا الإنسان الفرد الذي تضمحل إنسانيته إلى المستوى الرعاعي.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]