التغيير الديموغرافي في سورية: من السياسة العشوائية إلى السياسة الممنهجة


مركز حرمون للدراسات المعاصرة

المحتويات

أولًا: مقدمة

ثانيًا: بين الأمس واليوم

ثالثًا: مسارات التهجير

رابعًا: التهجير في خدمة التقسيم             

خامسًا: خاتمة

أولًا: مقدمة

خبِرَ السوريون جيدًا نظام الأسد الأب عبر الثلاثين عامًا الأخيرة من القرن المنصرم؛ وخبِروا جيدًا أيضًا نظام الأسد الابن، الذي يشكل امتدادًا موضوعيًا لنظام أبيه، عبر السبعة عشر عامًا، حتى الآن، من بداية القرن الحالي. وهم يعرفون من خبرتهم هذه أن هذا النظام الذي سعى باستمرار لامتلاك الأدوات الكفيلة بتأبيد سلطته، لم يتوانَ عن ارتكاب أبشع الجرائم والمجازر في سبيل هذا الهدف، ليس في الداخل السوري فحسب، وإنما في دول الجوار، وفي العالم أيضًا، حيثما يشعر أن هناك تهديدًا لسلطته. لكن، لم يكن يدور في خَلدهم أنه يُمكن أن يلجأ، في ظروف معينة، إلى اقتلاع  الشعب من بيوته وقراه وبلداته ومدنه وتشريده في الداخل السوري وفي جهات الدنيا الأربع، وإحلال مرتزقة من شعوب أخرى مكانه، في عملية تغيير ديموغرافي تهدّد النسيج الوطني السوري وترقى إلى مستوى (الجرائم ضدّ الإنسانية)؛ وأنه يُمكن أن يلجأ لتحقيق غايته هذه إلى استخدام أشدّ الأسلحة فتكًا، بما فيها الحصار والتجويع، فضلًا عن أسلحة الدمار الشامل الكيماوية، مثلما حصل في الهجوم الوحشي على بلدة خان شيخون في ريف إدلب في 4 نيسان/ أبريل الجاري، هذا الهجوم الذي قال بشار الأسد، قبل ساعات من تنفيذه، في مقابلة مع صحيفة كرواتية “ليس هناك من بديل للنصر”، مُضيفًا “إذا لم نربح هذه الحرب فإن ذلك يعني إلغاء سورية عن الخريطة”. كما لم يكن يدور في خلدهم أن هذا النظام يتوافر على هذا المخزون الفظيع من الكراهية تجاه “شعبه”، ومن روحيّة الثأر البغيض والانتقام البشع. هذا ما كشفته تطورات الحوادث منذ ثورة الشعب عليه في عام 2011 وحتى الآن.

ثانيًا: بين الأمس واليوم

تعرّضت سورية في تاريخها الحديث إلى تغيّرات في تركيبتها السكانية، كان أبرزها ذلك الذي تزامن مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية، وما نتج بعد ذلك عن الانتداب الفرنسي. غير أن معظم تلك التغيّرات اتّسمت بقدرة الكيان الذي كان قيد التشكّل على استيعابها، فضلًا عن أنها، ربما كانت، في بعض الحالات، حاجة أو ضرورة لاكتمال هذا الكيان ونضوجه، وهو الأمر الذي شهدناه في تطور منطقة الجزيرة السورية، التي كان لأكرادها وأرمنها الدور الرئيس في جعلها مركزًا حيويًا ومزدهرًا. كما أنّ القاسم المشترك في تلك التغيّرات السكانية أنها كانت ذات طبيعة أقلّيّاتية، ذلك أنّ معظم الجماعات التي استقرّت في أماكن جديدة كانت من الأقليات الكردية والأرمنية وغيرها أيضًا، وهذا ما أسهم في بروز مسألة الأقليّات في سورية فيما بعد، نتيجة إخفاق السوريين في تكريس مشروعهم الوطني الديمقراطي وبناء دولتهم الوطنية الحديثة.

وبعيدًا عن كلّ المثالب التي ألصقناها بـ (اتفاقية سايكس- بيكو) التي قسّمت المنطقة، منذ مئة سنة قبل الآن، إلى الدول التي ما زالت قائمة، غير أنها أورثتنا، نحن السوريين، مجتمعًا يتوافر على غنى وتنوّع ديني وإثني، كان كفيلًا بتحويل سورية إلى بلد متطوّر ومزدهر قلّ مثيله، كما أن الجغرافيا السورية توافرت على بنية مجتمعية اقتصادية متكاملة، تمتلك من المقوّمات ما يضمن لها النمو والازدهار لو نجحنا في بناء دولتنا الوطنية الحديثة ومجتمعنا الوطني الديمقراطي، ولما كان بلدنا ومجتمعنا آلا إلى ما هما عليه الآن.

اختلفت الحالة جذريًا اليوم مع انكشاف معالم المشروع الإيراني للتلاعب بديموغرافيا البلاد برعاية نظام الأسد، ومع اعتماد منفذّيه العنفَ في أقصى درجاته لبلوغ هدفهم في اقتلاع سكان مدن وبلدات بأكملها. والاقتلاع هنا يتمّ على أساس مذهبي صريح. وهي المرة الأولى في تاريخ البلاد التي تتعرّض فيها “الأكثرية السنيّة” إلى عملية تهجير منهجية وقسريّة لتحلّ محلّها “جماعات شيعية” من خارج البلاد. ويأخذ رعاة هذا المشروع في حسبانهم، العمل، بعد أن “يحقّقوا انتصارهم ويستتبّ لهم الأمر”، كما يتوهّمون، على الحيلولة دون أن يعود المهجّرون خارج البلاد إلى بلدهم، ودون أن يعود المهجّرون داخله إلى مدنهم وبلداتهم وبيوتهم. وليس من شكّ في أن هذا العبث في البنية المجتمعية السورية، إذا ما قُيّض له أن يتواصل، سوف يؤول إلى حروب أهلية مفتوحة، وإلى خلخلة الكيان الوطني السوري وزعزعة استقراره وتفجيره، هذا عدا عن تداعياته الجغرافية التي سوف تطال الإقليم بأسره.

ثالثًا: مسارات التهجير

في مسلسل التهجير، وبعد تأجيل متكرّر، بدأت يوم الجمعة، الرابع عشر من نيسان/ أبريل 2017، عمليّة التهجير القسريّة لأهالي بلدتيّ مضايا والزبداني في ريف دمشق الغربي إلى محافظة إدلب في شمالي سورية ، في واحدة تُعدّ من أكبر عمليات التغيير الديموغرافي، تأتي بعد حصار النظام و(حزب الله) اللبناني وتجويعهما لمدينة الزبداني وبلدة مضايا عدّة سنوات؛ وذلك تنفيذًا للاتفاق الجديد الذي جرى التوصّل إليه وتوقيعه، وسط تكتّم شديد، من جانب ممثلين عن “حركة أحرار الشام الإسلامية” و”هيئة تحرير الشام”، وعن “الحرس الثوري” الإيراني وميليشيا “حزب الله” اللبناني، وبرعاية قطرية.

لقد رأت الأطراف الأربعة (إيران وحزب الله وقطر وهيئة تحرير الشام) في اتفاق المدن الأربعة (كفريا والفوعة، والزبداني ومضايا) أنه يحقق مصالحها مجتمعة. واللافت للنظر هو دور قطر في إتمام الاتفاق، على الرغم من معرفتها برفضه من جانب عديدٍ من القوى السياسية والفصائل العسكرية المحسوبة على “المعارضة السورية”.

فقد أثار الاتفاق موجتي استنكار واستياء في صفوف سكان ريف دمشق عمومًا، وأخذ الاستياء الشعبي يتصاعد في مضايا بريف دمشق بصورة خاصة من عملية التغيير الديموغرافي التي تجري من خلال اتفاق مع الإيرانيين يُعدّ، وفق كلّ المعايير المعمول بها، جريمة ضد الإنسانية طبقًا لأحكام الفقرة (د) من (المادة 7) من النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية. وما زاد الاستياء هو عدم علم كثيرٍ من سكان وقاطني مضايا بهذا الاتفاق. ويتزامن ذلك أيضًا مع استياء يسود أوساط بلدتي الفوعة وكفريا، اللتين يقطنهما مواطنون من “الطائفة الشيعية” بريف إدلب، من عملية إجلائهم من منازلهم نحو مناطق أخرى في محافظات ثانية.

بحسب الاتفاق، سيجري إخلاء أهالي الفوعة وكفريّا بصورة كاملة خلال مدة زمنية قدرها 60 يومًا، على مرحلتين، وليس واضحًا مما تسرب عن بنود الاتفاق وجهة الأهالي، ويُشير بعض المتابعين إلى إمكانية توجّههم إلى الزبداني ومضايا بعد تفريغهما من معظم سكانهما، فيما يُشير آخرون إلى احتمال نقلهم إلى الساحل السوري أو إلى حلب، وربما إلى القصير في محافظة حمص. وإذا ما تمّ نقل أهل كفريا والفوعة إلى الزبداني ومضايا، يكون التغيير الديموغرافي الذي يقوده النظام وحلفاؤه في سورية قد دخل مرحلته الأخطر، من سياسة التهجير القسري على أساس مذهبي مكشوف.

تُشكّل هذه الوقائع الحلقة الأخيرة، حتى الآن، من هذا المسلسل الذي أخذ مسارًا معقّدًا ومتصاعدًا، بدأ بُعَيد اندلاع ثورة الشعب ضدّ سلطة آل الأسد، وما زال مستمرًّا. ونستطيع أن نميّز في هذا المسار بين مرحلتين اثنتين، شكّل خطاب بشار الأسد في 26 تموز/ يوليو2015 الحدّ الفاصل بينهما، وهو الخطاب الذي قال فيه “الوطن ليس لمن يسكن فيه أو يحمل جواز سفره، الوطن لمن يدافع عنه ويحميه”، وأردف قوله “الشعب الذي لا يدافع عن وطنه لا وطن له ولا يستحقّ أن يكون له وطن”. كان ذلك في لحظة وصلت معها قوّاته، والميليشيات الطائفية الداعمة له، إلى حالة من التراجع والتردّي والاندحار. ثم إنه أمر بالغ الدلالة أن يقول لمجموعة من الصحافيين والمحلِّلين الأميركيين والبريطانيين في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2016، أي بعد أكثر من سنة على خطابه المشار إليه، إن “النسيج الاجتماعي في سورية أصبح أفضل من ذي قبل”، طبعًا هذا بعد قتل أكثر من نصف مليون، وتشريد وتهجير نحو نصف الشعب السوري.

في المرحلة الأولى، ومع تصاعد العنف الذي لجأ إليه نظام الأسد في مواجهة “شعبه”، وبخاصة بعد استخدام الطائرات والدبّابات والصواريخ والمدفعية، واستهدافها التجمّعات السكنية والنشاطات السلمية المدنية في القرى والبلدات والمدن؛ كان كثير من الأهالي يُضطرون إلى ترك أماكن سكنهم والبحث عن مكان آمن يلجؤون إليه بعيدًا من الموت. وشيئًا فشيئًا، شكّلت هذه الحالة ظاهرة من الهجرة العشوائية المؤقتة التي كانت تتمّ بحكم الأمر الواقع. لكن، شهدت هذه المرحلة حالات مُقلقة، تمثّلت بـ:

1- التهجير الذي شهدته بلدة القصير والقرى المحيطة بها، بعد أن اقتحمتها ميليشيات (حزب الله) وقوات النظام في نيسان/ أبريل 2013، وجرى، في معظمه، باتجاه لبنان، ولا سيّما بلدة عرسال البقاعية، ومنطقة عكّار في الشمال. علمًا بأن الحزب وما يُعرف بشبيحة النظام، هم من أّمّن ممرات لخروج المدنيين من بلدتهم وقراهم بهدف إخلائها تمامًا. ومنذ هذه الواقعة، كما تبيّن فيما بعد، بدأ (حزب الله) فعليًّا في إرساء سياسة التغيير الديموغرافي في هذه المنطقة على أساس مذهبي وبصورة منهجيّة مدروسة.

2- التهجير الذي شهدته أحياء حمص القديمة بعد الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في أيار/ مايو ،2014 وقضى بإخراج جميع المقاتلين والمدنيين من تلك الأحياء، وترحيلهم إلى مناطق أخرى في حي الوعر بحمص أو بلدة الدار الكبيرة بريف حمص الشمالي.

في المرحلة الثانية، التي تلت خطاب بشار الأسد في 26 تموز/ يوليو 2015، أخذ التهجير يأخذ طابعًا مختلفًا. فمع اندحار قوات الأسد، والميليشيات الطائفية الداعمة لها، استشعر الأسد، ومعه إيران، خطورة الأوضاع بعد فشل تطلّعاتهما لتحقيق نصر عسكري يُعيد إلى النظام سيطرته على كامل الجغرافيا السورية؛ وبدأ التفكير جديًّا بالانكفاء إلى ما اصطُلح على تسميته بـ “سورية المفيدة” لتحصينها وحمايتها. وقد كانت مسألة التغيير الديموغرافي في صُلب خطة التحصين والحماية هذه. ولجأ، من أجل تحقيق هذا الهدف، إلى إطباق الحصار على المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة، حيث جرى حرمانها من جميع مقوّمات الحياة تطبيقًا لمبدأ (التجويع من أجل التركيع)، وإخضاعها، بعد ذلك، عبر التهديد بالإبادة، لبدعة “المصالحة” التي تعني الاستسلام والتهجير.

هذا ما شاهدناه في داريا والمعضمية في غوطة دمشق الغربية، وفي مضايا والزبداني غربي دمشق، وفي حي الوعر في حمص، وما زلنا نشاهده في غوطة دمشق الشرقية، وفي أماكن أخرى أيضّا.

فمدينة داريا، عنوان سلميّة الثورة ومدنيّتها ونصاعتها، وصاحبة مجلة (عنب بلدي)، بعد أن استطاعت الصمود لنحو أربع سنوات في مواجهة الحصار الخانق والآلة العسكرية الجهنمية للنظام والمليشيات الداعمة له، تمّ إرضاخها في أواخر شهر آب/ أغسطس 2016، بعد أن فقدت الأمل في أي مساعدة، لاتفاق يقضي بخروج أهلها إلى شمالي سورية. وأُفرِغت من سكانها عن بكرة أبيها. ويُعدّ اتفاق داريا تكرارًا للاتفاق الذي جرى إخضاع أحياء حمص القديمة له في أيار/ مايو 2014.

والأمر نفسه أصاب معضميّة الشام المجاورة لها في أوائل أيلول/ سبتمبر من العام ذاته، حيث رُحِّلت أعداد غفيرة من أهاليها إلى الشمال السوري.

وفي المسار ذاته، في أواخر آذار/ مارس الجاري، رُحِّل ما بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألفًا من المقاتلين والمدنيين من حيّ الوعر في مدينة حمص إلى جرابلس وإدلب في شمالي سورية، هذا الحيّ الذي كان من المراكز الأولى لثورة السوريين عام 2011.

وهذا ما كنا شاهدناه أيضُا، أواخر العام الماضي، في حلب الشرقية التي خضعت لحرب مستعرة ومدمّرة من قِبَل الروس والإيرانيين وقوات الأسد، حيث جرى إفراغها من أهاليها الذين تمّ تهجيرهم إلى محافظة إدلب.

وقد أصبح معروفًا أن من بين أهمّ ما يجري العمل عليه، هو جلب عائلات عراقية، من المحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، وإسكانها في عديد من المناطق السورية التي هُجِّر أهاليها، وذلك بالتنسيق مع مسؤولين في نظام الأسد؛ وأن (حركة النجباء) العراقية التي يتزعمها أكرم الكعبي، الذي هو على صلة مباشرة بالمرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، هي من تتولّى ترتيب هذه الأمور، إذ تُمنح كلّ عائلة راتبًا شهريًا وبيتًا للسكن. وينظر كثيرٌ من السوريين إلى ما يحدث اليوم، على أنه خطّة إيرانية- أسدية، تهدف إلى طرد سكان المناطق المحيطة بدمشق ليحلّ محلهم مستوطنون “شيعة” يأتون من إيران والعراق وأفغانستان ليتملّكوا أراضيَ وبيوتًا وممتلكات ليست لهم، على غرار ما فعلته “إسرائيل” حين هجّرت السكان الأصليين من الفلسطينيين.

هناك ثلاث قوى فاعلة في هذا المسار، الإيرانيون ونظام الأسد والروس (تحديدًا بعد تدخلهم العسكري في أيلول/ سبتمبر 2015)، لكن يبدو أن لكلّ طرف أهدافًا وتطلّعات ومصالح تتباين مع أهداف وتطلّعات ومصالح الطرفين الآخرين؛ ففي حين تتطلّع إيران إلى بسط سيطرتها على هذا الجزء من سورية (سورية المفيدة) للحفاظ على خطّ تواصلها مع لبنان، ومع “ضاحيتها” الجنوبية تحديدًا، من أجل ضمان إمداداتها لـ (حزب الله) والإبقاء على حالة تماسّ مع “إسرائيل” والإطلال على البحر المتوسط؛ في حين أن أكثر ما يهمّ الأسد، هو تأمين الحزام المحيط بالعاصمة لحماية قلعته الأمنية ولإبعاد الخطر المباشر المُحدق به، فضلًا عن أن تغيير النسيج المجتمعي في هذا الجزء من سورية يُسهّل عليه بسط سيطرته في حال اضطرته تطورات الحوادث إلى الانكفاء إليه؛ وأما الروس الذين تبنّوا خطّة النظام في “المصالحات”، فإن همّهم الرئيس، بإضافة إلى تأمين العاصمة دمشق، هو إطفاء البؤر الساخنة عبر هذه “المصالحات” التي أخذوا يضعونها تحت رعايتهم، لضمان عدم سقوط النظام، ولتغيير الأوضاع الميدانية وموازين القوى على الأرض، لجعلها في خدمة الحلّ السياسي الذي يتطلّعون إلى فرضه. وهم يعلنون كلّ يوم من قاعدتهم العسكرية في “حميميم” عن هدن يتبعها تهجير قسري، أو “تسويات” جديدة يضعونها تحت رعايتهم.

رابعًا: التهجير في خدمة التقسيم

ينظر كثير من السوريين إلى ما يحدث على أنه تنفيذ لخطة خفية للتقسيم، بحيث تُفرّغ (سورية المفيدة) من المعارضين، ويُحشر كل الذين طلبوا الحرية والكرامة في “إمارة دينية” يتمّ حصارها من العالم كله. وهم ينظرون بريبة إلى الصمت الدولي على ما حدث في القصير داريا والمعضمية والوعر، وعلى ما يحدث الآن في مضايا والزبداني، وعلى خطة النظام بفرض مصالحات قسريّة على البؤر الساخنة عبر تخيير سكانها بين الحصار القاتل والإبادة الجماعية، وبين القبول بتسليم أنفسهم ومغادرة ديارهم!؟

وفي الوقت الذي ينظرون فيه إلى كلّ هذا، تستعيد ذاكرتهم ما صدر عن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، جون برينان، في عام 2016 حين وضع في التداول فكرة أن “عودة سورية موحّدة” لم تعد مؤكّدة، ومعها أيضًا فكرة أن “سورية التالية، المجزّأة، لم تتضح معالمها النهائية بعد”؛ ويرَون كيف أن اللاعبين الخارجيين يعوّلون على الحرب المستمرّة لتساعدهم في رسم الخرائط الجديدة. فهل الإدارة الأميركية ضالعة في خطط تقسيم سورية وما تستلزمه من تغيير ديموغرافي؟ وإذا كانت تدافع عن نفوذها، أو تسعى لتوسيعه، فما هي مصلحتها في تسهيل مشاريع المنافسين الآخرين في لعبة توزيع الأدوار والنفوذ الدامية؟

وإذا كانت موسكو لم تنسّق تدخّلها العسكري في سورية مع واشنطن، إلا أنها مدركة أن مستقبل دورها في هذا البلد يتطلّب تعاونًا وقبولًا أميركيين. وعلى الرغم من أن “التقسيم” لا يرد في الخطاب الروسي، إلا أن “وحدة سورية” لا تظهر فيه إلا نادرًا، وهو ما يتّسم به الخطابان الإسرائيلي والإيراني. كانت تركيا الأكثر وضوحًا في التشديد على سورية الموحّدة، لخشيتها من انعكاس التقسيم سلبًا عليها، لكن نفوذها، منذ ذلك الوقت وحتى الآن، قد تراجع بصورة كبيرة.

لكن، هل وصلت الأطراف المجتمعية السورية، بعد أكثر من ستة أعوام من الحرب التي فرضها النظام على الجميع، وبعد كلّ هذه المعاناة المريرة، إلى اقتناع بأن الافتراق هو المخرج الأقلّ ضررًا؟ وهل تراجع الولاء الوطني الجامع لمصلحة الولاءات الفرعية الضيّقة وما قبل الوطنية؟ وهل أصبح الاستقواء بالحليف الإقليمي أو الدولي لدى كل طرف، وبموجب الاعتبارات المذهبية أو المصلحية الانتهازية، هو الحالة السائدة؟ أسئلة يتوقّف على أجوبتها ملاقاة المستقبل السوري.

في الغالب، تدرك النخب السورية الوطنية جيدًا، لدى كلّ الأطراف، أن عملية التقسيم ستؤدي إلى بروز كيانات كسيحة تابعة، تُسلّم أمورها إلى زمرة من تجار الحروب وأصحاب المشاريع الذاتية أو الإقليمية، وهي لا تتقاطع، بأي شكل من الأشكال، مع مصلحة الشعب السوري الوطنية.

خامسًا: خاتمة

لا تتوافر في مشاريع التغيير الديموغرافي التي يُديرها النظام في “سورية المفيدة”، مقوّمات الاستمرارية والاستقرار، ذلك أن القائمين عليها أقلية تُحيطهم امتدادات سكانيّة كبيرة من نسيج السكان القُدامى المُهجّرين، الأمر الذي يجعل التغيّرات الديموغرافية التي نجح النظام في تحقيقها، في أكثر من مكان خاضع لسيطرته، مجرّدَ محاولات من المستبعد أن تستقرّ على الأمد التاريخي الطويل، وحتى المتوسط، وتتحوّل إلى حقيقة ديموغرافية ثابتة.

من جانب آخر، يبدو أن الطريق الوحيد لإنقاذ سورية من مشاريع التقسيم التي تتهدّدها يمرّ عبر الوصول إلى توافق وطني، يقطع مع الاستبداد والإرهاب والتطرّف بأشكاله كافة. وخطوة من هذا القبيل تتطلّب من النخب الوطنية السورية، لدى كلّ الأطراف السياسية والمجتمعية، تحمّل المسؤولية بكل إقدام وثبات، والدخول في حوار وطني شامل يُغطي الجغرافية السورية بأسرها، حوار يُركّز على نقاط التوافق، ويعمل على تفكيك نقاط الخلاف، ويتعامل معها بعقلية وطنية إبداعية تتجاوز العقبات والإشكالات لمصلحة مستقبل سورية وأجيالها المقبلة.

قد يكون مثل هذا الطرح متأخرًا قليلًا أو كثيرًا، أو، بكلام أكثر دقة، تعرّض للعرقلة من أصحاب الشعارات والمصالح الضيّقة؛ لكنه يبقى المخرج الأضمن إذا أردنا الحفاظ على وطننا ليكون بجغرافيته الموحّدة، وثرواته الظاهرة والخفيّة، حاضنة لجميع السوريين من دون استثناء.

وحتى تمتلك هذه النخب الصدقية اللازمة، وتتمكن من بناء جسور الثقة فيما بينها، عليها أن تكون مستعدة للقطع مع كل من تسبّب في محنة الشعب السوري، وارتكب الجرائم في حقه، سواء على صعيد السلطة، أو على صعيد القوى الميدانية التي استغلّت الأوضاع، وأدت أدوارًا إشكالية.




المصدر