القول في الطائفية والقول الطائفي


أحمد برقاوي

ينطوي إسلام بلاد الشام والعراق خصوصًا على تنوع طائفي، فإلى جانب الأكثرية السنية في بلاد الشام، هناك الأقليات العلوية والإسماعيلية والدرزية والشيعية، والعراق ينفرد بتقسيم طائفي متساوٍ تقريبًا بين السنة والشيعة.

هذه الحال ذات واقع موضوعي ينتمي تكونه إلى التاريخ، وليس إلى أحد من الأحياء علاقة في ذلك.

كان لبنان الكبير الذي تأسس بعد الاستعمار الفرنسي المنطقة الوحيدة التي تأسست فيها السلطة على أساس التوزيع الطائفي، وتكونت فيها أحزاب ذات عصبية طائفية، ونُظر إلى المسيحية اللبنانية بوصفها دينًا – طائفة، فيما لم تنح سورية والعراق هذا المنحى في جعل الطائفية عنصرًا من عناصر دستور البلاد، بل إن الأحزاب الوطنية والقومية والشيوعية قد تجاوزت في عصبيتها الأيديولوجية مسألة الانتماء الطائفي، ما عدا ظهور بعض الأحزاب الشيعية في العراق التي لم يكن لها حضور قوي في المجتمع العراقي قبل الغزو الأميركي للعراق.

غير أن الانتماء إلى الطائفة -موضوعيًا- يخلق، شئنا أم أبينا، أنماطًا من السلوك والنظرة إلى العالم بفعل عامل التربية والأسرة، حتى لو كان ذلك لا شعوريًا أو ما قبل الشعور، بهذا المعنى فالانتماء إلى الطائفة ذو بعد هوياتي؛ حتى لو لم يشأ المنتمي إليها ذلك، حتى لو كان العراقي والسوري يخجلان من الحديث عن الطائفة بوصفها وعيًا معيبًا.

لبنان شهد حربين طائفيتين في القرن العشرين، واحدة عام 1958 وأخرى عام 1976، بينما لم تشهد سورية والعراق حروبًا طائفية تُذكر، باستثناء المعارك التي نشبت بين العلويين والإسماعيليين عام 1919، وكان سببها الأساسي طبقيًا وليس طائفيًا.

مع استيلاء البعثي السني التكريتي صدام حسين على السلطة في العراق، بعد تطورات حصلت في قوى انقلاب 17 تموز/ يوليو عام 1967، واستيلاء حافظ الأسد العلوي القرداحي على السلطة بعد انقلابه عام 1970، راح هذان “الريفيان المتخلفان” يبحثان عن عصبية دائمة لسلطتهما بعقلية القرابة، ولقد فرضت عصبية القرابة التي يبحثان عنها لتأكيد سلطتهما، الإعلاء من شأن العائلة، الأعمام والأخوال، والأولاد بعدئذ، والتعويل على العصبية الطائفية أيضًا.

في الوقت الذي راح الدكتاتور العراقي السني التكريتي يعمل في اتجاهين: اتجاه تمتين قوته السلطوية على مؤسسة عسكرية أمنية بعثية، فيها عنصر القرابة حاضرًا حضورًا قويًا، واتجاه تقوية العراق عسكريًا وتقنيًا وتوفير سبل العيش المادي النعيم خارج الفساد، مع قهر العراقيين سياسيًا عبر سلطة قامعة، راح الطاغية السوري العلوي القرداحي يُفكّر بأمر واحد فحسب، وهو البقاء في السلطة على أساس عصبيتها الطائفية، باستخدام أعلى درجات القمع والفساد وإفقار المجتمع.

لم يتسن لصدام حسين أن يورث السلطة لعدي أو قُصي، فيما رتب المريض حافظ الأسد توريث السلطة لابنه بشار بعد موت ابنه باسل الذي كان يؤهل للوراثة، وفي الوقت الذي أصبح فيه الدكتاتور العراقي غير مقبول أميركيًا وأوروبيًا بسبب طموحاته الكبيرة، كان الطاغية السوري مقبولًا جدًا بسبب رغبته الصغيرة في البقاء في السلطة فحسب، وعلاقة السلم مع إسرائيل، ولهذا أزيل صدام بالقوة العسكرية الأميركية – البريطانية، وبُورك توريث السلطة في سورية للابن من أميركا والغرب، الابن الذي ورث له الأب حدود رغبته الصغيرة.

لقد تشكّل الوعي الشيعي الطائفي في العراق على نحو خفي في عهد صدام، وبرز إلى العلن بكل أحقاده وثأريته بعد احتلال العراق، وتسلم الأحزاب الطائفية الشيعية للسلطة. وتشكل الوعي الطائفي العلوي العلني و”الوعي الطائفي السني” الخفي في عهد حافظ وبشار، وبرزت “عدوانيتهما” بعد الثورة، ومن “الطبيعي” أن يكون المُدافع عن سلطة أدمنها نصف قرن، وشكلت وعيه بالحياة وبالعلاقة بالمختلف معه، وبالخوف من فقدانها أكثر عنفًا بما لا يقاس من الجمهور الذي أنتج فكرة التحرر من حكم العائلة، وفي المقابل أتت شروط الصراع وإرادة السلطة الحاكمة الوعي السني لدى فئات وجدت نفسها تنتمي إلى الحركات الأصولية الجهادية – العنفية.

هذا القول في الطائفية لا ينتمي إلى الوعي الطائفي، بل إلى الوعي بالواقع الطائفي، فما كان يُستحى من ذكره بدافع الانتماء الوطني والقومي، وبدافع عدم صب الزيت على النار، صار من الضرورة كشفه كي يخلق البشر الوعي البديل الذي يتجاوز هذه الكارثة الهوياتية، فالخطاب الطائفي ليس هو الذي يكشف عن الطائفية، بل هو الذي يخفيها، ويختفي منها بسلوك طائفي، ويُؤسس وعيه بالآخر انطلاقًا من وعي طائفي.

لقد دلت تجربة العراق ما قبل الغزو الأميركي، وما بعده، على استحالة خلق وطن ومجتمع ومواطنة وهوية وطنية ووعي بالانتماء تأسيسًا على قول ووعي وممارسة طائفية، بل إن ذلك لا ينتج إلا العنف الطائفي، وقس على ذلك التجربة السورية الطائفية، وما زاد عليها من ميليشيات شيعية عنفية وسنية داعشية عنفية في مسار مواجهة ثورة الكرامة من السلطة، فالطريق إلى سورية الجديدة مستحيل الوصول إليها من دون تجاوز هذا الوسخ التاريخي، وهذا رهن بصعود الفئات الوسطى مرة ثانية في إهاب المشروع الوطني أولًا.




المصدر