ضحايا سوريون… الموت المجاني بنار التحالف


هنادي الخطيب

قتلت الولايات المتحدة أشخاصًا لا تُعرف هوياتهم. قتلت مدنيين قالت إنهم جميعًا قُتلوا من طريق الخطأ، والخطأ يتكرر، وأشلاء الضحايا تتناثر حاملة توقيع الطائرات الأميركية في سورية.

أظهرت وثائق سرية كشفت عنها إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، أن أميركا استخدمت سلاح الطائرات بدون طيار أكثر بخمسة أضعاف من إدارة سلفه جورج بوش، وهو ما أدى إلى سقوط كثير من الضحايا.

لكن المفاجأة لم تكن بهذه المعلومات، بقدر ما كانت بالمعلومات التي أكدت أن 90 في المئة ممن قتلوا في غارات الطائرات بدون طيار، خلال خمسة أشهر، لم يكونوا هم الأشخاص المستهدفين، وأن 456 غارة بهذه الطائرات -أواخر 2014- قتلت 2464 في 7 بلدان (باكستان وأفغانستان واليمن والصومال والعراق وليبيا وسورية).

علق عليها حينئذ الصحافي الأميركي “جيريمي سكيل” الذي شارك في الكشف عن الوثائق بأن الغارات التي يشنها الجيش الأميركي بهذه الطائرات تستهدف -عادة- شخصًا واحدًا، لكنها تقتل معه عدة أشخاص، يعدّهم الجيش أعداء، على الرغم من أنهم ليسوا مستهدفين.

وكما هي العادة الأميركية في استخدام اللغة والمصطلحات، فمنذ حرب فيتنام أتوا بمصطلح collateral damage أي: “الأضرار الجانبية”؛ لتجميل القتل المجاني، بل إن هيئة اللغة الألمانية أعلنت عام 1999 أن كلمة العام كانت “الأضرار الجانبية” في إثر حرب كوسوفو الدموية. على الرغم من الانتقادات الكثيرة من داخل أميركا التي طالت الطريقة الأميركية في التعامل مع ضحاياها المدنيين، إلا أنها بقيت انتقادات إعلامية بعيدة عن مركز القرار.

موت مجاني

قتلت قوات التحالف الدولي في اليوم الأول من غاراتها على سورية، 24 أيلول/ سبتمبر 2015، ما لا يقل من 24 مدنيًا، بينهم 5 أطفال و5 نساء، بحسب توثيق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، واستمر نزيف الدم السوري على يد جميع من يقاتل على الأرض السورية بدءًا بالنظام السوري وميليشياته، ومرورًا بتنظيم الدولة الإسلامية، وفصائل إسلامية متشددة، وميليشيات كردية، وانتهاء بالتحالف الدولي، ولكن كل من قَتل على الأرض السورية كان يُندَّد بقتله المدنيين من جهات أممية أو غربية، وعلى الرغم من أن التنديد لم يوقف أو يخفف من عدد القتلى، إلا أنه أصبح سمة ترافق المجازر اليومية السورية، وبقي القتل على يد التحالف الدولي قيد التجاهل.

واليوم وصل عدد ضحايا نيران التحالف الدولي منذ بداية تدخله في سورية “لمحاربة داعش بحسب التصريحات الأميركية والدولية”، من المدنيين السوريين إلى 945 شخصًا، بحسب توثيقات الشبكة السورية 1 آذار/ مارس 2017.

وفي بداية العام الجاري، في كانون الثاني/ يناير، تفوقت قوات التحالف الدولي على القوات الروسية بعدد القتلى المدنيين، فقُتل بنار التحالف في ذلك الشهر 91 مدنيًا.

مجازر التحالف

اعتاد التحالف الدولي على منهجية تبتدئ بإنكار قيامه بمجزرة كردّ أولي وسريع، ثم تأتي الخطوة الثانية بالاعتراف بالمجزرة، وتليها مباشرة الخاتمة بتحميل المسؤولية لأحد الأطراف المتصارعة على الأرض، بذريعة أنها قدمت للتحالف بيانات وإحداثيات ومعلومات مغلوطة، وينتهي الأمر عند هذا الحد؛ لينشغل المدنيون بجمع الأشلاء من تحت الأنقاض، ولتخف الانتقادات تدريجيًا، وبالطبع، وكما هي العادة في سورية، سرعان ما ترتكب مجازر أخرى على يد أطراف أخرى في مكان آخر؛ ما “يعفي” التحالف من مسؤولياته تجاه “الأضرار الجانبية” من المدنيين ضحايا الحرب العالمية التي تتم على الأرض السورية.

في تموز/ يوليو 2016، قُتل في منبج السورية، من ريف حلب، مالا يقل من 200 مدني بنار غارات التحالف، وبعد الإنكار الأولي اعترف التحالف بارتكابه المجزرة، وحمل المسؤولية لميليشيا “قوات سورية الديموقراطية”، وكأن التحالف الدولي يلعب دور الأعمى، فلا هو يمتلك أقمارًا صناعية، ولا يعرف شيئًا عن التكنولوجيا التي يدرك العالم كله أن ذريعة المعلومات المغلوطة لا تقنع حتى ذلك المقيم في الجبال البعيدة عن الحضارة.

وأما تسويغ التحالف للمجزرة، فجاء أكثر قسوة من المجزرة نفسها، لاستخفافه بأرواح المدنيين، إذ قال المتحدث باسم التحالف، كريستوفر غارفر: إن “الغارة كان من المقرر أن تستهدف كلًا من المباني والمركبات التابعة لداعش، إلا أن تقارير وردت لاحقًا من مصادر مختلفة تحدثت عن احتمال وجود مدنيين بين مسلحي التنظيم الإرهابي يستخدمهم دروعًا بشرية”.

وأضاف “غارفر” في بيان نشره موقع وزارة الدفاع الأميركية أن الهجوم ضد تنظيم الدولة في منبج تم بناءً على معلومات من ميليشيا “قوات سورية الديمقراطية”، وأشار إلى أن التحالف سيحدد ما إذا كانت المعلومات موثوقة بما فيه الكفاية؛ لإجراء تحقيق رسمي، وتابع “نبذل جهدًا لتجنب سقوط ضحايا مدنيين أو أضرارًا جانبية لا داعي لها وللتقيد بمبادئ قانون النزاعات المسلحة”.

ونقلت “الواشنطن بوست” عن بريت ماكغورك، المبعوث الرئاسي الخاص لمنظمة “مكافحة الإرهاب”، في تعليقه على مجزرة منبج: “كانت هذه هي الحملة الجوية الأكثر دقة في التاريخ”.

إذن؛ المدنيون في سورية هم ضحايا لا يمكن تجنبهم، وأضرار جانبية لا داع للاهتمام بها، وهنا يتوقف الكلام إذ إننا لا نجد تعليقًا ملائمًا للتوصيف الأميركي للضحايا المدنيين السوريين.

مجزرة المدرسة

نفذت طائرات التحالف في 21 آذار/ مارس 2017 غارات على بلدة المنصورة في ريف الرقة السورية، لتصيب مدرسة البادية التي يقطنها 50 عائلة نازحة من ريف حلب والرقة وتدمر؛ ما أدى إلى مقتل وجرح أكثر من 200 مدني.

وبأرقام “المرصد السوري لحقوق الانسان؛ “فإن التحالف ارتكب 4 مجازر متتالية بين 16 و20 آذار/ مارس 2017، أي خلال 4 أيام فحسب، بمعدل مجزرة يومية، وطالت تلك المجازر مدنيين من قاطني ريفي حلب والرقة، والنازحين إلى هذه المناطق، إضافة إلى ضربات متفرقة خلّفت عدة قتلى، وبحسب توثيقات المرصد، فإن 85 سوريًا قُتلوا بهذه الضربات، بينهم 10 أطفال دون سن 18، فضلًا عن المصابين بإعاقات دائمة؛ بسبب غارات التحالف، والأضرار المادية التي لا يتحدث فيها أحد بسبب الخسائر البشرية العالية.

وبمرور سريع بضحايا التحالف الدولي في سورية، نجد أنه في آذار/ مارس 2015 ارتكبت مجزرة في بير محلي، في ريف حلب؛ إذ لقي نحو 60 شخصًا مصرعهم، وبشهادة لممرض من المنطقة، فإن هذه المجزرة أبادت عائلات بأكملها من جراء استهداف منازل مدنيين.

وأيضًا جاء تسويغ القيادة المركزية الأميركية على لسان الناطق باسمها للمجزرة بأن الميليشيات الكردية التي كانت تسيطر على المنطقة قبل تنظيم الدولة الإسلامية أكدت خلوها منذ أسابيع من المدنيين.

في المدة بين 28 تموز/ يوليو 2015 و4 شباط/ فبراير 2016، أي خلال 7 أشهر تقريبًا، وُثقت 15 حادثة استهداف لمناطق مدنية ومراكز حيوية في سورية، وتسببت تلك الاستهدافات بمقتل 68 مدنيًا في الأقل، وخلال تلك المدة جرت مجزرة عين الخان التي راح ضحيتها 40 مدنيًا، بينهم 19 طفلًا. وفي قرية عين الخان في ريف الحسكة، قتل 40 من المدنيين يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر 2015 بغارات التحالف الدولي، وكالعادة تبودلت اتهامات، وقُطعت وعود بإجراء تحقيقات، ومن ثم؛ طويت الصفحة مرة جديدة.

يبدو أن جميع القتلة المتصارعين فوق سورية لهم المنهجية نفسها: مجزرة تصيب المدنيين، ثم إنكار وتهرب، ثم تسويغ وتحميل الخطأ لطرف آخر؛ وبعد ذلك بمدة قصيرة، مجزرة جديدة تخطف أضواء الإعلام ومشاعر الناس، فتغطي على التي قبلها، وهكذا دواليك؛ يُقتل المدنيون السوريون بأسلحة الجميع، بذريعة حماية المدنيين من أسلحة الجميع. متى ستقف الإنسانية وتقول إنها “جرائم جانبية”، وليست “أضرارًا جانبية”، بل متى سنقف -السوريين- لنرفض أن يكون مقتل من معنا “جريمة” ومقتل من ليس معنا “ضررًا”.




المصدر