في تأويل القذارة


معاذ اللحام

“الحداد هو أن نجعل الفراغ من ممتلكاتنا”

كارلوس بيريرا

من السهل كتابة تاريخ القتل، ومن السهل جدًا تعريف القتل وعزلهُ محدَّدًا، وفعلًا بشريًّا محضًا. إنه العنف عندما يصل إلى غايته؛ عندئذ لا يظهر الموت بصفته آلية طبيعية للفناء، لكنه يظهر أداة للإفناء المنظَّم. إن كلمة منظَّم تعني الفاعلية التي يكون فيها الموت نتيجةً لسيرورة عنفيّة، وهذه السيرورة هي القتل؛ الصفة الإنسانية الفريدة!

يعرف الفيلسوف الفرنسي، جان ماري مولر، العنف بأنه فعل اغتصاب: “كل عنف يمارس على الإنسان إنما هو اغتصاب لهويته؛ لشخصيته وحقوقه وكرامته الإنسانية. إن مأسوية الوجود ليست في كون الإنسان فانيًا، بل في إمكانية أن يكون قاتلًا”.

من الملاحظ جدًا، غياب القتل الجنائي أو وصوله إلى مستويات منخفضة، إذا ما قورن بالازدياد الصارخ في فاعلية القتل الجماعي. إن الحرب تقوم على أساس إعطاء صيغة شرعية للقتل! وكلمة شرعية تعني التسويغ الذاتي لمن يَقتل، تمنحه فرصة أن يكون قاتلًا بحق! فالقاتل يعطي لنفسه الحق بالقتل واغتصاب حياة القتيل، ويصبح مالكًا مضاعفًا لكلمة أكثر دقة: مجرم.

إنه من التعسف اللغويّ الربط بين كلمتين: قتل وشرعية؛ ذلك سيجعل من الإنسانية وكأنها لما تفارق كهفها الأول وغابتها السوداء، وتصبح مرادفًا واعيًا لكلمة أكثر دقة أيضًا: وحشية. تمثل الحرب التجلي الواقعي للعنف، وينظر إليها السياسيون بوصفها ورقة على الطاولة، إنهم يشرعونها، يتوسلونها وكأنهم استنفدوا كل إمكانيات تلافيها، ورقة تطبعها القدرة التي أنتجها التقدم بواجهته العنفية.

القتل الوسيلة، القتل الغاية، القتل المحصلة. من إذًا مازال يعيش حرجًا أخلاقيًا؟ القتيل يبحث عن معنى لوجوده، القاتل يبحث عن مبرر لعدمه، القتيل تحركه الرغبة، القاتل تقوده الغريزة. وبين الوجود والعدم وبين الرغبة والغريزة لحظةٌ تعادل شمسًا، عند القتيل، وهوةٌ تعادل قبرًا، عند القاتل. لحظةٌ هي شمس القتيل الذي يعيش في حريته، لحظةٌ هي قبر القاتل الذي يموت في عبوديته.

الذي يعيش حرجًا أخلاقيًا ليس القاتل -فهذا مجرم قطعًا- بل من يحاول إيجاد تسويغ للقاتل، هو الذي يسوغ بالقتل -الوسيلة وسخة- الوصولَ إلى غاية نظيفة، وهنا تصبح المحاكمة كلها ضمن فلسفة القذارة. إن الحرب القذرة، وكل حرب هي قذرة بالضرورة، هي الحرب التي لا تكتفي بسلب القتيل روحه، بل تعمد إلى تشويه الغاية التي من أجلها بذل القتيل روحه، إنها المعادل الموضوعي لنقيض الإنسانية.

إن الحرب، كجريمة عقلانية! أي أن فعل القتل يتم أخذ القرار به، وصوغه وتنفيذه بشكل إراديّ، وعن سابق إصرار وتصميم، ما يجعلها -رغم عبثيتها- عقلانيةً، حيث نرى قَتَلة بثياب أنيقة وأيدٍ بيضاء، وبكامل قواهم العقلية. لذلك فإن الحرب لا تُحيل إلى ذلك المعنى التقليدي الذي يتضمن فريقين متحاربين أو أكثر فحسب، بل تحيل على كلمة أشد عمقًا وأعنف تأثيرًا: الفقد. إنها تجعل منه فقدًا نهائيًا.

الكتابة عن الكارثة، لا يمكن أن تعادل الكارثة، إنها نسق متتابع لفظي تكراري يحاول وصف، شرح، تشريح الحدث المأساوي، الكتابة موازاة، فالكارثة شيء متفرد وخارج حدود الكتابة. يمكن أن تكون الكتابة شكل من أشكال الاعتذار من الضوء، من الفجر، من الأرض، من الدم. يمكن أن تكون ندمًا دائمًا، أو إيذانًا ببدء الحداد، لكنها لن تكون بمستوى الجريمة. يمكنها أن تأخذ شكلًا ارتداديًا للصراخ، يمكن أن تأخذ الشكل المعقوف لعلامة استفهام كبرى، في “زمن القَتَلة”، لكنها لن تعادل ألم أصوات القتْلى.




المصدر