هل يوجد مشروع إسلامي للدولة؟
18 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017
عبد الواحد علواني
[ad_1]
منذ أن بدأت الكيانات الحديثة بالتحول إلى دول، ظهرت مسألة الانتماء على مستوى الدولة، وظهر مفهوم الوطنية بعدّ الدولة هي الوطن، بعد أن كان الانتماء مسألة اجتماعية ذات جوانب شرعية وقضائية تحديدًا، ربما كان منصب الصدر الأعظم في الدولة العثمانية أعلى تجسيد للتفسير الديني للدولة، لكن دوره التأصيلي لقرارات الخليفة السياسي، بقي محدودًا.
في ظل فكرة الدولة الحديثة والموروثة من عهد استعماري، كان الدستور مطلبًا ملحًا لقوننة المجتمع وهيكلته وتنظيمه، وبتأثير من البنية العقدية العامة أصبحت الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسًا للدستور، تختلف في نسبة حضورها ونوعية الاجتهاد ومذهبيته بين دولة وأخرى. ومع ذلك لم تتغير وظيفة الطبقة الدينية إلى مرتبة المشرع تغيرًا حقيقيًا، فبقيت في وظيفة تأصيلية تكسب القرار السياسي والإداري سلطة مقدسة من خلال تأويلات تدعمه. وهذه حال مستمرة منذ العهد العباسي، فبيعة الديني للسياسي، حددت أطر الاجتهاد وقلّمت أدواته، بحيث تبقى دائرة في فلك السلطة، وتحول الاجتهاد من فكرة قابلة للرد والنقاش، إلى فتوى لها صفة القانون الملزم المحفوف بالمعاقبة. ولأن المذاهب الفقهية تشكلت في هذا العهد، بقيت أسيرة مجتمع تقليدي ودور نكوصي تابع، مهمته ليست التشريع للمجتمع، ولا مشاركة السلطة في تنظيمه، إنما إضفاء شرعية دينية عليها في سياساتها العامة والخاصة، الخارجية والداخلية.
في أواسط القرن العشرين ظهرت حركات فكرية ذات مرجعية إسلامية، تتمتع باستقلال نسبي عن السلطة، تحولت إلى أحزاب وجماعات معارضة. كان أبرزها الأخوان المسلمون، والجهاديون الأصوليون، و”الثوريون” الإيرانيون (الخمينيون).
هذه التيارات الدينية الثلاثة سعت إلى السلطة، وكل منها سنحت له الفرصة لتقديم أنموذجه لطريقة الوصول إلى الحكم، وممارسة السلطة، فالأصوليون لم يقروا بديمقراطية الانتخابات، أو الشرعية الشعبية للوصول إلى السلطة؛ لأن مسألة السلطة في نظرهم محسومة لصالح (الحكم الإلهي) الذي يعني إلزام المجتمع من خلال الاستحواذ على السلطة بالقوة، وممارستها تعسفًا يستجيب لرؤية مستغرقة في ماض مؤول ومتوهم، وكانت طالبان أفغانستان خير مثال عليه، إذ قدمت أنموذجًا تعسفيًا باسم المقدس، يفرض تأويلًا متشددا لمجتمع منغلق وخاضع في الداخل، ومعادٍ للخارج.
لم يتمكن الأصوليون من فهم المعادلات الراهنة للسياسة، ولا طبيعة التحولات السياسية في العالم، واستحالة إقامة نظام حكم معزول كليًا. ومن خلال عقلية الفسطاطين استعدوا كل الدول والمجتمعات والمحاور، ودخلوا صراعات محلية وعالمية بنفس تقليدي قائم على التحدي الجهادي، مع رفد هذا التحدي بأدوات وأساليب مستمدة من الحركات الثورية في العالم. لم يبنوا مجتمعات قادرة على التعاطي والعيش مع عالم تغيرت ملامحه وأسسه، ولم يعيروا أهمية لمنهجية سياسية واقعية، تلاحظ أن الدولة هي مؤسسات متنوعة ومتخصصة، ولكل مؤسسة مرجعيتها وهيكليتها وارتباطاتها وسياساتها، بقيت السلطة الأصولية أقرب إلى طابع قبلي، أمير ومجلس أعيان، يرفدهم بعض الخبراء بخبرتهم حين الطلب من دون أن يكون لرأيهم قيمة محورية، ولم يسعوا إلى التنمية والتحديث والرفاهية، بوصفها سبل الشيطان التي تلهي عن الآخرة، وحتى العلوم والمعارف بقيت في إطار الثقافة الدينية البحتة؛ حرصًا على عدم الانشغال بالدنيا. ولأنهم شددوا على سلفية مطابقة للنصوص الموروثة، كان أي انخراط في الحداثة يمثل خروجًا على العقيدة. ولذلك لم يتمكن الأصوليون أن يشكلوا دولة بمعنى الدولة في تعريفاتها المختلفة، ولا أن يقروا ببنية تفتح مجال التعاطي السياسي مع الجوار أو بقية العالم. كانت التجارب قصيرة العمر، ولم تفلح في انتزاع أي اعتراف بها من أي دولة في العالم، على الرغم من تباين مصالح القوى الكبرى والمؤثرة. ولعل السبب الأبرز أنها لم تكن تمثل حتى بنية تاريخية حقيقية، إنما رؤية اختزالية لمراحل وجماعات صارعت من أجل السلطة لكنها لم تشكل دولة قط.
والأخوان المسلمون الذين بدؤوا برؤية انقلابية، ثم اقتنعوا باستحالة الوصول إلى السلطة عبر الانقلابات، ليقدموا رؤية مستجدة في مسألة الاستحواذ على السلطة وليس ممارستها، فدخولهم في الصيغة الشعبية من خلال الانتخابات الديمقراطية، لم يستكمل بممارسة ديمقراطية، ولعل التجربة المصرية غنية بالدلالات، فهم وإن وصلوا بشرعية جماهيرية، نزعوا إلى ممارسات سلطوية أفقدتهم التأييد، وعجلت في سقوطهم، مع أنها كانت فرصة تاريخية لن تتكرر بسهولة. وكذلك فعلت حركة (حماس) فاصطدمت بجدار دولي صلد قبل أن تبدأ. ثمة تيارات مستنسلة ومتأثرة بالتراث الأخواني، استطاعت أن تصل إلى السلطة وأن تمارسها أيضًا ضمن اللعبة السياسية، لكن في ظل قوانين علمانية مثل الحكومة التركية الراهنة، أو لعبة سياسية محدودة السلطات مثل ما يحدث في المغرب أو الأردن.
وجود طبقة تكنوقراط معقولة في التيار الأخواني كان يؤهلهم للوصول والاستمرار، لولا البنية الهيكلية، وهي بنية هيكلية تفتقد العمق حتى في البيئات التي تأمل أن تكون حاضنة لها، ففي “الإسلام السني” لا توجد مرجعية دينية عليا، إنما مدارس فكرية، تحولت أحيانًا إلى مؤسسات تأصيلية في ظل حاكم سياسي. وصفة المرشد العام ما كان لها أن تغادر بعدها الحزبي، مع “توثبها” لحالة من المرجعية العامة. إلا أن هيمنة مرجعية عليا على شؤون الدين والمتدينين بما يشبه التفويض الإلهي أمر مستحيل في البنية السنية، قد يفرض حاكم ما هذه المرجعية، وتقبل تحت الإكراه، لكنها لا يمكن أن تلامس الوجدان العام، أو تحشد تلقائيًا مذهبًا بأكمله. قد يكون أمام الفكر الإخواني فرصة التحول إلى تيار سياسي حاكم، عندما ينتهج منهجًا سياسيًا يميل إلى الجدلية وليس إلى الحاكمية، حيث الفارق يكمن في تقديس السلطة لا نقدها.
والخمينيون في إيران والعراق ولبنان، وصلوا في إيران عبر ثورة شعبية، وفي العراق من خلال إسقاط نظام دكتاتوري، وفي لبنان في ظل مقاومة للاحتلال الاسرائيلي، بمعنى آخر أنهم وصلوا بشيء من الشرعية المتاحة، ومن ثم دخلوا لعبة الانتخابات الديمقراطية عبر ممارسات شكلية، لم تخف الوجه الدميم لممارسة السلطة في أطار طائفي. البعد الطائفي المؤسس على تأويلات تاريخية، طغى غالبًا على المنهج السياسي، ما أفسد إمكانية تأسيس دولة بمعنى الدولة أيضًا، وإن كانت قد اهتمت بالمؤسسات الشكلية دستوريًا، فالانتخابات الإيرانية سقفها اختيار رئيس الجمهورية، الذي لا يشكل سوى أداة تنفيذية للولي الفقيه، أو السيد أو الإمام… إلخ. ولذلك لم تختلف السياسات العامة باختلاف وصول شخصيات تمثل تيارات مختلفة، وفي الحصيلة كانت سياسات إيران هي هي، سواء أكان رئيسها خاتمي أم نجاد. ربما هذا يفسر لنا التنحي المبكر لشخصية مثل (بني صدر) الذي جاء متصورًا نظامًا شبيها بالملكية الدستورية، يكون فيه الولي الفقيه رمزًا، وليس حاكمًا بالمطلق.
لم تبن الخمينية دولة لكل أبنائها، وبدأ بالغدر بشركائه في الثورة (حزب توده اليساري)، ولا دولة متسقة مع مواردها الضخمة، ولا سعت نحو تطوير المجتمع الإيراني وتنميته، بل وظفت موارد الدولة في خدمة سياسات نظام صارم يسعى إلى التمسك بالحكم والاستمرار؛ ما جعل إيران دولة مزعجة داخل وخارج حدودها، ومع هيمنة الأحلام الإمبراطورية، وتأجيجها بثارات تاريخية تحشد جماهير عريضة وساذجة، أفسد النظام الإيراني ليس تطلعات الشعب الإيراني إلى الحرية والكرامة، بل إنه ساهم بكل ضراوة في وأد تطلعات الشعوب المجاورة. بتدخلها في العراق ولبنان وسورية واليمن… إلخ.
لا يمكن الجزم بفشل أي تصور إسلامي للدولة، لأن هذا الجزم ينبني على تصورات معينة، إذ توجد تجارب تاريخية أسست دولًا حقيقية في زمنها، على الرغم مما يعتورها من هنات، مثل الخلافة الأموية، أو الأندلسية، أو دولة محمد علي باشا، قد لا تصلح للراهن، لكنها على الاقل تدل على وجود تصور قابل للحياة والنهوض والتنمية والتعاطي في عالم متنوع. وثمة دول تعقد مقاربات بين هذا التصور الإسلامي والحداثة نحو تركيا وماليزيا وإلى حد أندونيسيا، وربما كانت سورية ومصر مؤهلتين لدور أكبر لولا هيمنة التيار القومي، وصراعه مع البديل الإخواني.
في الحصيلة تعاضد تياران متناقضان في إفشال فكرة الدولة الإسلامية، التيار الذي يوصف بالعلمانية، وكان مزيجًا من تيارات يسارية وتغريبية وطائفية وقومية، والتيارات الدينية التي حاولت احتكار الإسلام بوصفه دينًا، وليس بوصفه حضارة. دون إهمال البعد الاستشراقي للسياسات العامة للقوى الكبرى في تأجيج الصراع بينهما.
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]
[/sociallocker]