‘دمشق: القليل من الحياة الطبيعية يغلّف الخطر السائد في المدينة التي كانت هادئة ذات مرة’

19 أبريل، 2017

المحال التجارية مفتوحة، لكنك بالكاد تجد الزبائن. الطائرات تهدر في السماء، وفي كل مكان من العاصمة السورية تجد رجالاً مسلحين.

 

نُدُل يرتدون ملابس من الثلاثينيات، بشوارب رفيعة وشعر مرسل إلى الخلف، يسكبون التبولة في أطباق سيدات يدخنّ النرجيلة في مطعم سيلينا الكبير في دمشق القديمة.

هناك أيضاً حفلا زفاف، ومطرب يدندن أغنية بالعربية: “أنا أحبك، لكن ذلك لا يعني أن سأبقى معك”. تنهض إحدى العرائس وتتمايل بثوبها الأزرق المزين بآلاف الأحجار من الكريستال الذي يشكل مخالب براقة على ظهرها العاري.

وليس هنالك ما يشير إلى أن حرباً تدور في الخارج، أو أن نصف مليون إنسان لقوا حتفهم أو حتى أن نصف الشعب السوري مُهَجَّر.

وبعد بضعة أيام من الاحتفالات، على بعد ميل واحد فقط، قُتِل 74 شخصاً في تفجير انتحاري مزدوج. وكان معظم الضحايا حجاجاً عراقيين قادمين لزيارة ضريح مقدّس. وعقب أيام من تلك الحادثة، تمكّن الثوار في الريف من حفر الأنفاق والوصول إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة لتندلع بعد ذلك معارك عنيفة.

لكن المتاجر لا تزال مفتوحة، أما صوت المياه في النوافير الرخامية في المدينة فلا يخبو إلا في بعض الأحيان، عندما تحلق الطائرات في سماء المنطقة في طريقها شرقاً إلى معقل الثوار في الغوطة المحاصرة أو إلى حمص.

وبعد 6 أعوام من الحرب، يخرج الناس إلى أشغالهم في دمشق لكنهم يبقون رؤوسهم إلى الأسفل، كما تغلق المحلات التجارية أبوابها مبكراً، بالإضافة إلى ذلك أخذت الزواحف تغطي أبواب حمّامّات المدينة، أو الحمّامّات العامة. ولم يعد هناك إلا القليل من الحالة الطبيعية تغطي التهديد الذي يشوب الحياة في مدينة كانت ودودة نابضة بالحياة.

ويقول رجل أعمال طلب عدم الكشف عن هويته: “لقد رحل جميع الأناس الطيبين. كان ينبغي أن تأتي إلى هنا قبل الحرب. لقد كان الوضع مختلفاً، لكن الناس هم من تغيروا”.

ويتابع: “لقد جربت العيش في الخارج، لكنني كرهت ذلك. هذا بلدي، لكنني مواطن من (الدرجة الثانية) هنا. الإيرانيون في الدرجة الأولى، والروس هم الآلهة”.

محل حلويات في دمشق. تصوير: روث ماكلين.

 

 

تساعد كل من روسيا وإيران الحكومة السورية لتحويل المد في حرب بدأت كانتفاضة ثورية وردود فعل عنيفة، لكنها باتت معركة معقّدة بين مجموعات مختلفة تحارب لأسباب مختلفة، وتدعمها عشرات الدول المختلفة.

أما في سوق التكية السليمانية، يوجد متجر يكتظ بالصناديق التقليدية المصنوعة من خشب اللوز، وتتداخل أغطيتها بقطع فسيفساء صغيرة مطعّمة بالعظم والصدف. ويبرز أحد الصناديق ليتميز عن الصناديق المجاورة، إذ يتشكل غطاؤه من فسيفساء لأعلام متداخلة لروسيا وسوريا على خلفية بيضاء مطعّمة بالصدف. وعلى الحائط المقابل، تستند صورة تذكارية يظهر فيها الرئيس بشار الأسد يصافح فلاديمير بوتين مبتسماً.

لكنك بالكاد ترى زبائن محتملين، وفي متجر المجوهرات المجاور، يوجد زبون يصلح عقداً قديماً وهو يقول: “الوضع ليس بجيد، كما أنه ليس في تحسن. يجب عليك أن تعيش، لكن ما نحاول فعله هو النجاة وحسب”.

كما جفّ تيار الزوار الذي اعتادت دمشق على استقباله، وكذا الدولار السياحي. وما زال الأولاد يدفعون عربات معدنية يجوبون فيها أطراف سوق المدينة القديمة الأساسي، وما زال السوريون يجوبون أزقّته، غير أنهم لا يبتاعون سوى القليل من الشاي هنا، وبعض اللوز هناك، لا يشترون إلا ما يحتاجونه.

وقد جعلت حالة التضخّم المتفشية تلك الحياة مكلفة للغاية. إذ يقول “محمد الدهبي”، مختص في صناعة النظارات، وهو شخص لطيف يضع حزاماً ضيقاً منتصف بطنه، يقول إن الناس يتفاجؤون عندما يجدون أن النظارات أصبحت تكلّف أكثر مما كانت عليه من قبل. ويعلّق على ذلك: “يجب عليك أن تشرح للزبائن أن البيضة الواحدة كانت تكلّف 20 أما الآن فأصبحت تكلفتها 60. وبالتالي ستكون تكلفة النظارات أكثر ب3 مرات حالياً، الأمر سيان”.

وقد أصبح بعض زبائنه أثرياء بفعل هذه الحرب. ويقول في ذلك: “تستطيع أن تكتشف هذا من خلال مساومتهم على السعر. ففي حال قال لك الزبون :إنه غالٍ، وطلب أن تقلل من سعره، فعندئذ تكون تلك أمواله. أما في حال دفع الثمن مباشرة، تستطيع أن ترى أنه لم يتعب ليجني تلك الأموال”.

محمد الدهبي ينتقي زوجاً من النظارات لزبون. تصوير: روث ماكلين.

 

 

لكن معظم الشعب يكافح من أجل العيش. وتقول “نور شامة” البالغة من العمر (26عاماً)، والتي تعمل مصففة شعر كي تساعد والدتها في دفع الإيجار: “لقد أصبحت التكاليف الآن لا تصدق”. تجلس نور في الجامع الأموي المفروش بالسجاد والمزدحم بالناس الذين يأتون للتفكر والصلاة، وتجلس إلى جانبها “عبير الأحمد” (20عاماً) مرتدية ثوباً مقنعاً رمادي اللون. لم تلتقِ الفتاتان من قبل، لكنهما تتحدثان عن الرجال.

تقول شامة: “ربما لن أجد زوجاً. لقد رحلوا جميعاً، كل الطيبين رحلوا”.

وترد الأحمد: “إن الوضع في الوقت الراهن لا يسمح بقصص الحب على أية حال. ستكون حياة باردة، ولن يكون زواجاً سعيداً؛ إذ لن يستطيع أي طرف إرضاء الآخر، ليس في الحرب”.

ويقول معظم من يعيش في دمشق إنهم لا يريدون سوى أن تنتهي الحرب، وفي حال كان بقاء الأسد هو الثمن؛ فليكن.

 

أبو حاتم. تصوير: روث ماكلين.

 

بيد أن هذا ليس رأي من يعيشون في الضواحي المحاصرة. وأنت بوصفك صحفياً تسافر إلى سوريا الأسد، تحتاج إلى الإذن للتوجه إلى أي مكان، كما أنك لا تستطيع العبور إلى المناطق التي يسيطر عليها الثوار. هنالك حدود لمن يمكنك التحدث إليهم.

ومع ذلك ما زال بإمكانك أن تقود سيارتك إلى دمشق القديمة، وأن تشتري وجبة إفطارك من مخبز تديره إحدى العوائل وأن تتمشى في نزهة إلى الشارع المستقيم، الذي يقال في الإنجيل إن الرسول بولس ذهب إليه بعد أن أصبح كفيفاً. لكن “مناقيش” الجبنة سيقدمها لك طفل ما، ذلك أن الرجال الذين كانوا يلقون بالعجين في أفران الطوب إما لقوا حتفهم أو يحاربون في ساحات القتال، أو تجدهم في الخارج.

وقبل أن تصل إلى هناك، يتعين عليك أن تمر بعشرات نقاط التفتيش التي يحرسها جنود يطلبون معرفة طبيعة عملك. وستصطدم برجال مسلحين عند باب توما، إحدى البوابات السبع للمدينة القديمة المسورة، التي تكسوها الآن ملصقات لجنود سوريين قتلى، فيما يقف رجال غامضون بسماعات أذن للمراقبة في الخارج.

 

علاوةً على ذلك، فإنك تجد في الوقت الراهن رجالاً مسلحين، بزي رسمي أو من دونه، وهذا وجه آخر من الحياة في دمشق والذي يجب أن يتم البحث في شأنه. بعض أولئك من الجنود، والبعض الآخر أعضاء من قوات الدفاع الوطني “NDF”، وهم عبارة عن ميليشيا موالية للحكومة لها فروع عدة يلتحق بها السكان المحليون.

وبعد يومين من الهجوم الانتحاري المزدوج، يقف أعضاء الدفاع الوطني على الرصيف، الذي فُقد قسمٌ منه في التفجيرات. وقد تحوّل لون الحافلات التي كانت على وشك نقل الحجاج إلى مسجد السيدة زينب، وهو أقدس ضريح للشيعة في سوريا، تحوّل لونها إلى الأسود، كما غطتها الشظايا. لكن إطاراتها قيد التصليح لكي يتمكنوا من سحب الباصات من المكان. وما يزال زوج جديد من الأحذية يعود لأحد الحجاج محاطاً بالزجاج المحطم تحت أحد المقاعد.

زوج من الأحذية خلّفه  أحد الحجاج العراقيين على متن الحافلة التي انفجرت في دمشق القديمة. تصوير: روث ماكلين.

 

 

ويقول أحد السائقين ممن كانوا يقلّون الحجاج الذين لقوا مصرعهم: “إن العراقيين شجعان للغاية. فهم يؤمنون أنه إذا كان مُقدّر لك أن تموت، ستموت. لذا لا فرق إن كنت ستأتي إلى سوريا أم لا”.

وقد كثُرت نظريات المؤامرة حول المسؤول عن التفجيرين. ويتساءل أحد السوريين بهدوء تام فيقول: “من الذي دبر الأمر حسب اعتقادك؟”. قالها وهو يغمز بعينه مميلاً رأسه: “ربما إيران؟ ربما. لا أدري”.

وكان لأبي حاتم المسن الذي يبلغ من العمر ( 80 عاماً)، وهو عضو في قوات الدفاع الوطني، كان له ابن قضى في التفجير الثاني، إلا أنه وبعد يوم واحد من الجنازة خرج إلى العمل مرتدياً زيّه. ويقول: “ما زالت القوة تسري في جسدي”.

ويضيف: “أنا أدافع عن بلدي، وإني مستعد للقتال، جميعنا كذلك. فهم عندما يقتلون واحداً منا، يكونون قتلة. لكننا عندما نقتلهم فنحن ندافع عن أرضنا وبلدنا”.

 

رابط المادة الأصلي: هنا.

[sociallocker] صدى الشام
[/sociallocker]