أبطال الزبداني: قاتلنا النظامَ بأسلحته وهزمنا “حزبَ الله”


محمد خليفة

هل خروج مقاتلي الزبداني ومضايا فصلٌ آخر من ملحمة صمودٍ ومقاومة، استمرت خمس سنوات، أم أنه الأخير؟

سؤال تتوقف الإجابة عنه على عوامل محلية وخارجية عدة، ولكن “الملحمة” التي سطرها أبناء البلدتين ستحتل، في أيّ حال، مكانًا بارزًا في تاريخ الثورة، بوصفها تجربة استثنائية تتميز عن قصص غيرها من بلدات وقرى أخرجتها الثورة من زوايا النسيان إلى واجهة العناوين في العالم.

الزبداني ومضايا بلدتان جبليتان توأمان، وأصل اسمهما آرامي يعود إلى عصور سحيقة، تمتاز البلدتان بسحر الطبيعة ووفرة الغلال والفواكه والمياه، ولطافة الطقس صيفًا؛ ما جعلهما مصيفين ساحرين يجتذبان السيّاح، ويجلبان دخلًا عاليًا للسكان. ويقول أحد السكان “والدي أفقر أهالي مضايا، ولكن ثروته لا تقل عن مليون دولار، وبيتنا فاره، مساحته 500 متر مربع!”

لم يمنع الازدهار والرفاه اللذان تنعم بهما البلدتان انخراطَهما في الحراك الشعبي الذي انطلق ربيع 2011؛ لأن الوفرة المالية لا تعوض عن غياب الحرية والكرامة والعدالة. ويقول بعض الناشطين: إن هتاف (الشعب يريد إسقاط النظام) منتج زبداني مسجل، أطلقته حناجر شبابها قبل غيرهم، ما جرّ عليها غضب النظام؛ فدفع أجهزته لقمعهم مرة بعد أخرى، ولكن بلا جدوى، فأرسل جيشه ودباباته لاقتحام المدينتين، في 17 تموز/ يوليو، واعتقال العشرات وفرض حصار محكم. بيد أن الأهالي تحدّوا قوات النظام وواصلوا المقاومة، فكرر الجيش الاقتحام في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2011، وارتكب انتهاكات وحشية واستعمل المدفعية، فحمل الثوار السلاحَ وشكلوا كتائب (حمزة بن عبد المطلب) للدفاع عن البلدة في مواجهة 30,000 جندي، وهو عدد يوازي إجمالي سكان الزبداني، بمعدل جندي لكل مواطن!

في 13 كانون الثاني/ يناير 2012 دارت أول معركة مباشرة بين الطرفين، فخسر الجيش 36 دبابة وآلية، وطلب التفاوض، ولبى بعضَ شروط الثوار؛ فأفرج عن معتقلين، وسحب قواته من المدينة، ولكنه خرق الاتفاق وعاد إلى قصفها براجمات الصواريخ، فقتل نحو مئة من السكان، وفرض حصارًا شاملًا وقطع المياه والكهرباء، واستعان بثلاثمئة مقاتل من “حزب الله”. وأضحت الزبداني أول مدينة في ريف دمشق تهزم قوات الأسد.

وكشف المعارض، كمال اللبواني، من أبناء الزبداني، أنه اضطر حينئذٍ لمغادرة مدينته إلى الأردن، فكان العماد آصف شوكت، نائب وزير الدفاع، يرسل ضابطًا كبيرًا لمقابلته في عَمّان؛ للتفاوض معه على وقف إطلاق النار في الزبداني؛ لأن ثوارها هددوا بقصف مواقع النظام الحساسة في العاصمة، وأكد “أن الجنرال كرر إرسال مندوبه؛ لخوفهم من انتشار عدوى أنموذج الزبداني إلى بقية بلدات المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية”.

نعمت الزبداني ومضايا منذ ذلك الوقت بالحرية في داخلها، وسط حصار قاتل وقصف مستمر، أوقع مئات القتلى والجرحى، وسبّب نزوح أكثرية السكان نحو بلودان وسرغايا.

ويقول ثوار الزبداني: إن الأسد خصّ مدينتهم ببراميله المتفجرة، فاستعملها للمرة الأولى فوقها. ويقولون: إن أكبر عددٍ من البراميل ألقي عليها! وقدّرها الخبير العسكري الأردني، فايز الدويري، بثلاثة آلاف برميل؛ حتى منتصف 2015، علمًا أن أشرس المعارك دارت بعد ذلك التاريخ، حين أعلن حسن نصر الله متبجحًا بدءَ معركة السيطرة عليها، واعدًا مؤيديه بتكرار سيناريو القصير 2013، ولا سيّما أن الحزب أصبح القوة الرئيسة في حصار البلدات الثلاث التي تقع على طريق دمشق – لبنان.

كان الهدف إفراغ المدينة من سكانها، أحياءً أو أمواتًا. قدّر المهاجمون أن الثوار والسكان بلغوا مرحلة الإنهاك بعد ثلاث سنوات ونصف من الحصار والجوع ونقص السلاح والذخيرة، وتصوروا أن المعركة سهلة وأن المدافعين سينهارون، ولكن الوقائع كذبت حساباتهم؛ إذ صمد الثوار صمودًا أسطوريًا، وردّوا الهجمات بمثلها، وكبدوا الحزب خسائر بشرية أكثر من أي معركة أخرى، وناهز عدد القتلى 110 في ثلاثة أشهر. وبعد هذا القتال الضاري، أُبرم اتفاق هدنة، استجدته إيران ووسّطت فيه تركيا، بعد أن هاجمت الفصائل الوطنية بلدتي الفوعة وكفريا شرقي إدلب؛ لخلق توازن رعب، وتطور الاتفاق؛ ليتضمن خروج جرحى ومدنيين من البلدات الأربع، لكن الاتفاق تعطل تنفيذه لاحقًا؛ إذ تبين أن إيران تريد تهجير أهالي الزبداني ومضايا إلى إدلب ونقل أهالي الفوعة وكفريا إليهما؛ تطبيقًا لمخططها المذهبي المسمّى (الهندسة الديموغرافية) وهو ترجمة فعلية لهدف حزب الله من حربه على البلدتين، فبدا الاتفاق وكأنه التفاف على هزيمته في المعركة الأخيرة، ورفضه الثوار والسكان معًا.

والأهم هو أن المخطط الديموغرافي الموصوف يحظى بتواطؤ دولي، إذ نُقل عن دبلوماسي في دولة إقليمية أنه اتصل بـ “إسرائيل” طالبًا منها قصف مواقع حزب الله في البلدتين لتخفيف حدة هجومه؛ فجاءه الجواب: “ممنوع علينا القصف في هذه المنطقة”.

وكشفت مصادر معارضة أن إصرار إيران وحزبها اللبناني على التبادل السكاني بين البلدات الأربع مردّه إقامتها منشآت عسكرية استراتيجية في باطن جبال المنطقة، وتريد حمايتها بخلق واصل ديموغرافي بين مناطق لبنان الشيعية وسلسلة القلمون الشرقية، فضلًا عن أن هذه السيطرة تضمن الوصل الجغرافي بين دمشق وحمص والساحل، في ما يُسمى “سورية المفيدة”، والأرجح أنه تسويغ زائف؛ لأنه لو كان صحيحًا لما تركته إسرائيل!

ردت القوى المحاصرة للزبداني ومضايا على هزيمتها المهينة بتشديد حصارها الإجرامي الذي أهلك المئات، ولا سيّما الأطفال والشيوخ، واضطر السكان إلى أكل أوراق الشجر، وفضحت صور الجوعى والموتى أخلاقيات “محور المقاومة”، ولا سيّما ميليشيا “حزب الله” وتدخلت الأمم المتحدة، وفرضت اتفاقًا لإيصال الأغذية، فمُني المهاجمون بهزيمة سياسية أخرى.

وبينما سقطت أسطورة الحزب سطعت معجزة ثوار القلمون الشرقي على الصعيد العالمي، بصمودهم وقتالهم مدة خمس سنوات دون دعم خارجي عسكري أو غذائي أو طبي.

يشرح أحمد غادر، أحد ثوارَ مضايا والزبداني عن أسرار صمودهم: لم نحصل على بندقية أو طلقة واحدة من الخارج. كنا نستغل فساد جنود النظام ليهرّبوا لنا بعض الأغذية بأسعار خيالية (كيلو الرز بمئة دولار!) ولكن توقف الأمر بعد أن احتكر الحزب اللبناني الحصار وأبعد قوات الأسد.

أما بالنسبة للسلاح والذخائر، فيؤكد غادر، وهو ضابط شرطة سابق انشق منذ بداية الثورة: “كنا نهاجم مستودعاته وحواجزه للاستيلاء على حاجتنا”، وأضاف: “عندما كنا نرى شاحنات الجيش تفرغ الأسلحة لقواتها في المنطقة نفرح، ونقول جاءنا المدد، ثم نهاجم ونغنم الأسلحة والذخائر” وأقسم “كنا في بعض الأحيان نقاتل قوات الجيش والحزب ببنادق الصيد”.

لفت:(خلال سنوات الحصار الطويلة تكيفنا مع أسوأ الأوضاع المعيشية، وابتكرنا وسائل، يجب أن تُسجل لنا اختراعاتٍ عالمية، لنعزز صمودنا، أهمها استخراج البترول من البلاستيك، إذ كنا نسير آلياتنا ودراجاتنا النارية، وكانت قوات النظام تدهش، وهي تسأل من أين نحصل على البترول”!

عن الاتفاق الجديد الذي اقتضى خروجهم الى إدلب قال غادر: “نحن فرضنا الاتفاق الجديد ولم يُفرض علينا، ويختلف عن سابقاته، وحقق لنا مكاسب مهمة، فهو يضمن خروج من يريد من المقاتلين فحسب، من دون السكان، ولن يأتي أحد للسكنى في بيوتنا، ويضمن لنا الإفراج عن 1500 معتقل من سكان المنطقة، نصفهم من النساء. لا النظام ولا الحزب سعيدان بالاتفاق، ونتوقع أن يحاولا إعاقته”.




المصدر