“الانتصار” التركي وهزيمتنا السورية والعربية


محمد ديبو

تأتي نتائج الاستفتاء التركي؛ لتضيف تحولًا جديدًا إلى التحولات التي تجري في عالم اليوم، وتجعل من مقاربة الثورة السورية وشقيقاتها العربيات تنتقل إلى مدار أوسع وأعم مما كان مطروحًا عامي 2011 و2012؛ إذ كان فهم الثورة وطبيعتها آنذاك محددة بثنائية الاستبداد والحرية، ومن ثَم؛ فإنّ اكتفاء القوى الثورية والفاعلين الثوريين والاجتماعيين بمقاربة الأمور ضمن هذا السياق، بوصفه بؤرة مركزية (من دون أن يكتفى بها طبعًا)، كان دليلَ عمل كافيًا.

إلا أنه منذ عام 2013 -تقريبًا- بدأت تظهر تحولات وأحداث أدت تدرُّجًا إلى جعل الثنائية تلك (استبداد، حرية) عاجزة عن الإحاطة بجوانب الثورة، إذ تكسّر الإطار الوطني للصراع، وباتت مستويات الصراع أكثر تعقيدًا؛ فقد بتنا أمام عالم يتحول، في مستوى العلاقات الدولية (تخلي أميركا عن حلفائها وتقارب أميركي- إيراني أيام أوباما، وتحالف روسي- إيراني- تركي)، ومستوى الموضوعات المطروحة (الإرهاب، الهجرة واللجوء، صعود اليمين، تفكك الدول، تداخل الثورة والحرب الأهلية، خطر تفكك الاتحاد الأوروبي)، ومستوى انزياح القوى وتحولاتها (انكفاء أميركي، تحفز صيني، تقدم روسي، تمدد إيراني، استعداد تركي للمواجهة)؛ ما جعل هذه التحولات -بالضرورة- عنصرًا مؤثرًا في أي ثورة، فإن لم تؤخذ (التحولات) في الحسبان من الفاعلين الثوريين والممثلين السياسيين لأي ثورة؛ لتُستوعَب ويُعمل بما يتيحه الممكن، تصبح الثورة في خطر حقيقي، وتصبح تغرّد في واد، بينما الحاضر يحفر مجراه في واد آخر تمامًا.

ضمن هذا السياق، يأتي الاستفتاء التركي؛ ليكون متحوّلًا آخر، سيؤثر -بالضرورة- على ما يحدث في سورية والعالم العربي، وعلى القوى أن تفهم الدروس مبكرًا قبل أن يقع الفأس في الرأس، ويصبح من المتعذر اللحاق بركب التحولات الحاصلة.

ضمن سياق التحولات التي تحدثنا عن بعضها آنفًا، نلاحظ عودة محمومة للمشروعات الإمبراطورية، فالروسي يهدف إلى استعادة أمجاده السوفياتية، فينشر قواعده ومستشاريه العسكريين من سورية إلى الحدود المصرية- الليبية، فيما لم تخفي إيران مشروعها الإمبراطوري منذ بداية الربيع؛ إذ أعلن خامنئي أن الربيع العربي استمرار للثورة الإيرانية؛ لينتهي المطاف بإضافة “أربع محافظات” جديدة إلى إيران (بغداد، صنعاء، بيروت، دمشق)، وذلك بالتوازي مع سعي الصين للتقدم بالتدريج إلى منصة العالم عبر “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير”، و”طريق الحرير البحري للقرن الواحد والعشرين، وهو ما يمكن لمسه في التمدد الصيني في إفريقيا من بوابة الاقتصاد، واليوم يأتي فوز أردوغان بتغيير النظام السياسي لامتلاك صلاحيات أوسع؛ ليتمكن من وضع مشروعه الطموح باستعادة موقع تركيًا عالميًا موضع التطبيق، وهو ما كان يعبّر عنه بالعثمانية الجديدة، فهدف أردوغان المعلن -بطبيعة الحال- أن يكون “أتاتوركًا” ثانيًا، أي: مؤسسًا ثانيًا للجمهورية التركية الثانية في 2023، أي: بعد مئة سنة من تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 على يد أتاتورك، وذلك كله وفق المعايير الأردوغانية، أي: أيديولوجيا إسلامية، وتمدد في دول الجوار، وكان التدخل العسكري التركي في سورية أولى بواكيرها، وقد أكد أردوغان -أخيرًا- أنه لن يكون “التدخل” الأخير. ومقابل ذلك، تظهر أميركا قوة شائخة، تسعى للحفاظ على موقعها العالمي، فيما تظهر على أوروبا بعض علائم “الرجل المريض” (تفكك، عدم اتفاق، صعود اليمين، صراع شمالها مع جنوبها، الإرهاب..).

إذا قارنا كل ما سبق بما يحصل في العالم العربي، فسنجد أن ما يوحد القوى السابقة هو المشروع، فلكل دولة مشروعها الإمبراطوري الذي تسعى لتحقيقه -في ما يبدو- الثورات العربية؛ تائهة في شعارات عام 2011، على الرغم من نبل تلك الشعارات، ولكن من دون أي مشروع أو أنموذج أو طريقة؛ حتى لكيفية إدارة البلاد وتحقيق التغيير في مستواه الوطني، فضلًا عن المشروع الطموح على مستوى الإقليم، وهو ما تعكسه -ربما- حالتا مصر التي أعادها السيسي أعوامًا إلى الوراء، والسعودية التي تتصدى اليوم لاستحقاقات كبيرة، تأخرت عن مواجهتها، وليس لها القدرة على حرق الزمن، طالما الداخل مكبّلًا بقيد الاستبداد الملكي؛ ما يعني أننا لسنا متأخرين على مستوى المشروع المفقود، فحسب، وإنما -أيضًا- على مستوى الثنائية (استبداد، حرية) التي لم نزل نقارب الأمر بها، على الرغم من عجزها عن الإحاطة بما يجري بعد كل هذه التحولات.

وتأتي اليوم نتائج الاستفتاء؛ لتكمل طوق الحصار حول الثورات، بخلاف ما يظن المصفقون لأردوغان (لا يختلفون عن المصفقين لبوتين أو خامنئي؛ إذ يعتقد هؤلاء أن إيران أو روسيا تريد إنقاذ وطنهم ونصرة الدكتاتور، فيما يظن الآخرون أن تركيا تريد أن تسقط النظام؛ لتتمتع سورية بالحرية والديمقراطية التي يقضمها أردوغان تدرُّجًا في بلده!)؛ إذ نرصد هنا تحولين مهمين، سيكون لهما ارتداد سلبي على الثورات المحاصرة أصلًا:

الأول أن نجاح أردوغان في تغيير النظام يعني تراجع مساحة الديمقراطية في المحيط العربي المصاب بقحط ديمقراطي أساسًا، وهذا يصب في العمق في السلة الإيرانية- الروسية- الخليجية المضادة للثورات أساسًا، ومن هنا؛ نفهم سر توّحد إيران وروسيا وتركيا في العداء للغرب أخيرًا، فالأنموذج الغربي الديمقراطي يهدد عروشهم، وبناءً عليه؛ كلما تقلصت مساحة هذا الأنموذج عالميًا يسعد هؤلاء، وقد رأينا كيف كان بوتين أول المهنئين لأردوغان! ما يعني أننا أمام عامل ضدي للتغيير والثورات في المنطقة العربية، وهو أمر يمكن تلمسه من صمت أنقرة على التهجير الديموغرافي الذي ينقل سنة سورية إلى إدلب، فهي أيضًا تريد أن يكون جوارها “سنيًا”؛ كي يُستخدم هؤلاء في إطار مشروعاتها -لاحقًا- جسر عبور إلى سورية الجديدة التي تتنافس عليها مع الجميع، علمًا أن الزمن لصالح الأتراك؛ بسبب الحدود المباشرة، وعامل الثقافة، والقابلية للدور التركي في محيط سني عانى طويلًا الظلم، وبات يبحث عن الحامي.

الثاني أن هذا الفوز يعني أننا اليوم أمام الإطلاق الرسمي لمشروع العثمانية الجديدة التي لا تنظر إلى العالم العربي وثوراته إلا في إطار “الولايات العثمانية”؛ ما يعني -أيضًا- أن الإسلام السياسي العربي المهزوم، سيكون الخيول التي سيعبر عليها أردوغان إلى الولايات العثمانية القديمة، والمفارقة أن نجاح الاستفتاء سيكون سلبيًا جدًا على مستقبل الإسلام السياسي العربي (السني)، الذي يقف اليوم في موقف الدفاع عن النفس أساسًا، وجاء الاستفتاء ليزيد الطين بلة؛ لأن تدهور تركيا نحو هذا الموقع أحرق ورقة “الديمقراطية الإسلامية” و”الأنموذج التركي”، فلسان حال الجميع يقول اليوم: إذا كانت “أرقى” نماذج الإسلام السياسي تظهر هذه الردة الديمقراطية، فما بالك بـ “إسلاماتنا” المتخلّفة عقودًا عن الإسلام التركي (باستثناء النهضة التونسية، والعدالة والتنمية المغربي)؛ ما يعني أن الإسلام السياسي العربي فقد أي حظ بالعودة إلى السلطة في المستقبل القريب، وسيجد نفسه مضطرًا للالتحاق بمشروع العثماني الجديد.

تحتاج الثورات العربية اليوم إلى مقاربات جديدة، إذ لم تعد آليات التفكير القديم ملائمة؛ ما يحتّم علينا ضرورة الإسراع في بلورة الرؤى والمشروعات؛ استنادًا إلى تلك التحولات؛ كي لا نخرج من التاريخ والجغرافيا في آن.




المصدر