تفجير الراشدين في حلب… صنّاع الحياة من قلب الموت


صفاء مهنا

لم يتورع نظام الأسد، طوال تاريخه، عن ارتكاب أي فعلٍ يخدم مصالحه، وإن استخدم فيه أعوانَه، أو من يسمّون رافعته الشعبية، وقد أوردت وكالة “أكي” الإيطالية، نقلًا عن مصادر روسية، أن النظام خسر، خلال ست سنوات من الحرب، نحو 150 ألف قتيل من طائفته فحسب، فكيف إذا ما أُخذت بالحسبان أعداد القتلى الموالين له من باقي الطوائف.

ربما يأتي تفجير الحافلات، في حي الراشدين في مدينة حلب، في هذا السياق، تلك الحافلات التي كانت تقل أبناء كفريا والفوعة في مسيرة تهجيرهم من منازلهم، ضمن اتفاق المدن الأربع.

أعاد مشهد التفجير إلى الذاكرة المظاهرات الأولى التي كانت تصدح فيها حناجر السوريين بعبارة “الشعب السوري واحد”. لم يكن الشعب السوري بحاجةٍ إلى جريان أنهارٍ من الدماء ليكتشف أنه واحد؛ فقد كان قتلى التفجير من كلا الجانبين، من الموالين للنظام المهجرين قسرًا، ومن الفصائل المعارضة التي كانت تشرف على تطبيق الاتفاق، وقد قُتل عشرات المقاتلين التابعين للمعارضة، وسقط نحو سبعين طفلًا، فضلًا عن المدنيين الآخرين. ألا يعني هذا أن قاتل الشعب السوري واحد؟

وأوردت صفحة “دمشق الآن” الموالية أنّ “السيارة المفخخة التي انفجرت قرب تجمع أبناء كفريا والفوعة، في حي الراشدين في حلب، كانت محملةً بأغذية الأطفال”، ولا يخفى على ذي بصر أن النظام هو من أرسل تلك السيارات.

تعمّد النظام، في هذا التفجير، أن يكون العدد الأكبر من الضحايا أطفالًا، للتغطية على مشاهد مجزرة الكيماوي، بعد أن لقي أطفالها تعاطفًا عالميًا كبيرًا، وليظهر بمظهر الضحية.

وقد ادّعى رأس النظام، في مقابلة مع “فرانس برس”، أن مجزرة الكيماوي، في خان شيخون، “فبركة إعلامية” من المعارضة، لتأليب الرأي العام العالمي ضده. إنه يشكك حتى في موت الأطفال الذي شاهده العالم كله، في حين أنه لم يدّعِ ذلك في حادثة تفجير حافلات كفريا والفوعة؛ لاعتقاده أن وجود ضحايا من الموالين له سيجنبه التهمة، ويلصقها بالمعارضة.

ما لم يتوقعه النظام هو تلك الصورة التي ظهر فيها المعارضون وأصحاب الخوذ البيض، والإعلاميون الموجودون في المكان، وهم يسعفون المصابين من أبناء البلدتين، مكذبين ادعاءه بأن المعارضة تقف وراء التفجير.

وفي الوقت الذي رأى فيه الأسد أن أصحاب الخوذ البيضاء عدوه الأول، وقال مؤيدوه: إن فوزهم بجائزة “أوسكار” انتصارٌ للإرهاب، أكّد شبان الدفاع المدني أن عملهم سيستمر لخدمة أبناء الشعب السوري بكل أطيافه، من دون النظر إلى انتماءاته.

وفي هذا، يقول الإعلامي عمار جابر، وهو أحد الإعلاميين الذين كانوا موجودين في أثناء التفجير: “إن إنقاذ الجرحى من أهالي كفريا والفوعة كان ردة فعل طبيعية؛ لأننا اعتدنا على هذا النوع من الأعمال خلال تغطيتنا ما يجري في سورية، ومن ثم؛ فإننا عندما نرى طفلًا أو امرأة بحاجة إلى مساعدة في مثل هذه المواقف، نهرع لتقديم المساعدة؛ لأن ديننا وإنسانيتنا يوجبان علينا أن نكون على قدر عالٍ من المروءة، بغض النظر عن هوية المصابين، وسواء عندنا أكانوا من الموالين للنظام أم من المعارضين له؛ فنحن بشر، وإنسانيتنا تأمرنا بذلك”.

في المقابل، شهد العالم كله كيف تعامل إعلاميو النظام، في المجازر التي ارتكبها سابقًا، عندما كانوا يدخلون إحدى مناطق الثوار “منتصرين”، وكيف كانت تغطيتهم تنم عن شماتة وحقد، وكأن الضحايا ليسوا أبناء البلد الواحد؛ إذ كانوا يلتقطون الصور مبتسمين فوق الجثث والأشلاء، فكانت صورهم شواهد راسخة في الذاكرة، وفي أرشيف معظم المحطات التي نقلتها، بدءًا من مقابلة مع إحدى الضحايا في مقبرة بدرايا، إلى تصوير إحدى المذيعات نفسها بصورة “سيلفي” وجثث الضحايا خلفها.

وهنا يعبّر جابر عن أخلاقية الثوار التي ظهرت في أثناء التفجير، بقوله: “ما قمنا به كان رسالة إلى العالم كله، تعلِمه أننا لسنا طائفيين، وأن ثورتنا ثورة شعبٍ لا ثورة طوائف، ولم يكن تصرفنا مدروسًا مسبقًا بل جاء عفويًّا؛ ليعبّر عن الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الثائر”.

هذا التفجير يجب أن يذكرنا ويذكر العالم بأنّ التهجير القسري، وحرمان الناس من بيوتهم واقتلاعهم من بيئتهم وذكرياتهم، ومن تاريخٍ يمتد إلى مئات السنين إن لم يكن أكثر، لا يقلّ جرمًا عن استهدافهم بالبراميل المتفجرة وبالمواد الكيماوية التي بات من الواضح أنها تهدف إلى دفع الناس إلى الرحيل وترك بيوتهم، كونها تتسبب بسقوط عدد كبير من الضحايا.

السؤال المشروع والموجه إلى أبناء كفريا والفوعة هو: ألا تعزّ عليكم ذكرياتكم؟ ألم تحمل أحاسيسكم رائحة أجدادكم؟ لمَ وافقتم النظام في خطته؟ وأي منازل ستتخذون، وأنتم تعرفون أنكم ستسكنون بيوت إخوانكم الذين نكّل بهم النظام حتى اضطروا إلى الرحيل وترك بيوتهم التي أمضوا فيها حياتهم؟

سيدركون لاحقًا أن النظام استخدمهم أدواتٍ لتمرير مشروعه الخاص، وها هم يعبّرون، في شبكات التواصل الخاصة بهم، عن سخطهم من جراء استهتار النظام بهم؛ إذ تركهم في العراء من دون مأوى ولا طعام.

في هذا السياق، يقول عمار جابر، مصورًا انطباع أهالي كفريا والفوعة بعد إنقاذ الثوار مصابيهم: “كان استغرابهم كبيرًا من إنقاذنا لهم، كوننا ناشطين وصحافيين وثوارًا، فهم ينظرون إلينا على أننا أعداء لهم، وهذا ما زرعه النظام في مؤيديه، على عكس ما لمسوه منا من تضحيات لإنقاذ أرواحهم”.

مر المجتمع السوري بكثير من النكبات في تاريخه، وهو قادر -كما كان سابقًا- على تجاوز هذه الحقبة التي صبغها النظام بالدم والدمار والفرقة التي ستزول كل آثارها، وسيعود السوريون الذين يحبون الحياة ويسعون إليها شعبًا واحدًا.




المصدر