لماذا يردد الأسد كلمة فبركة؟


توفيق الحلاق

في مقابلته الأخيرة مع وكالة الأنباء الفرنسية، أنكر الأسد ضلوع طائراته “السوخوي” في إلقاء غاز السارين بغارات متلاحقة على المدنيين، من أطفال ونساء ورجال في مدينة خان شيخون القريبة من مدينة إدلب، شمالي سورية، في 4 نيسان/ أبريل 2017، وخلّفت مقتل نحو مئة مدني، وأكثر من أربعمئة جريح، معظمهم من الأطفال، وعلّقَ على صور الأطفال، وهم يحاولون استنشاق بعض الهواء فلا يُفلحون، ثم يختنقون أمام الكاميرات، قائلًا: إنها صور مفبركة مئة بالمئة!! هكذا… دون أن يرف له جفن؟ الأسد وأركان نظامه ووسائل إعلامه، ومنظرو سياسته، ومؤيدوه، يرددون بالحماسة والثقة نفسها تلك الكلمة: (فبركة)، منذ اندلاع الثورة السورية منتصف آذار/ مارس 2011.

أضاف الأسد: انطباعنا هو أن الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، متواطئون مع الإرهابيين، وفبركوا هذه القصة؛ كي تكون لديهم ذريعة لشن الهجوم، وكان يقصد الهجوم الأميركي بتسعة وخمسين صاروخًا من نوع “توماهوك” على مطار الشعيرات، قرب مدينة حمص (انطلقت منه طائرات “السوخوي” المحملة بغاز السارين)، من مدمرات تابعة للبحرية الأميركية شرقي البحر المتوسط، في الساعات الأولى من صباح 7 نيسان/ أبريل 2017، وقال أيضًا: نحن لا نمتلك أي سلاح كيماوي، وفي عام 2013 تخلينا عن كل ترسانتنا!! وحتى لو كان لدينا مثل تلك الأسلحة!! فما كنا لنستخدمها.

بالطريقة نفسها تنصل بشار الأسد من مسؤولية جيشه عن مقتل الطفل عمران دقنيش وشقيقته اللذين أخرجهما من تحت الأنقاض فريق (الخوذات البيض)، وانتشرت في إثرها صورة عمران الذاهل في سيارة الإسعاف في كل وسائل الإعلام حول العالم. وصف الأسد صورة عمران بأنها غير حقيقية، وأنها مفبركة بهدف الإساءة إلى سمعة جيشه. وللمفارقة فإنَّ زوجه أسماء اعترفت بحقيقة الصورة، دونما قصد منها، عندما تساءلت في مقابلة أجرتها معها قناة روسيا 24، ونشرها موقع الرئاسة السورية: لماذا لم يحظَ مصير أطفال الزارة بالتغطية الإعلامية نفسها التي حظيت به مأساة إيلان وعمران؟ وأضافت: لقد قررت وسائل الإعلام الغربية التركيز على هذه المآسي؛ لأنها كانت تُلائم أجندتها الإعلامية. وإيلان الذي أشارت إليه أسماء الأسد تصدّرت صورته وقصة موته المأسوية صحف وشاشات العالم، الخميس 3 أيلول/ سبتمبر 201، وملخص القصة، كما روتها عمته تيماء الكردي لصحيفة ناشيونال بوست الكندية: سمعت النبأ في الساعة الخامسة فجرًا، ثم اتصل بي شقيقي عبد الله والد الطفل إيلان وأخبرني وهو ينتحب: ماتت زوجتي وطفلاي. وكان يقصد إيلان وعمره 3 سنوات، وغالب 5 سنوات، وأمهما ريحان 35 عامًا، عندما انقلب بهم القارب الذي كان يحملهم باتجاه جزيرة كوس اليونانية.

هناك طفل آخر أكبر من إيلان وعمران اسمه حمزة الخطيب، وهو من بلدة الجيزة في محافظة درعا، خرج مع أهالي بلدته يحمل معهم مواد إغاثية وطبية لفك الحصار عن مدينة درعا، في 29 نيسان/ أبريل 2011، اعتُقل ذلك اليوم في حاجز للأمن العسكري، قرب مساكن صيدا، وبعد أيام سُلمت جثته المشوهة إلى أهله وعليها آثار تعذيب فظيع وثقبين نافذين في ذراعيه من رصاصتين، ورصاصة ثالثة في قلبه، وكانت رقبته مكسورة وعضوه الذكري مبتور، تعاطف ملايين الناس حول العالم مع أهله ومع السوريين، بعدما شاهدوا صوره.

ردة فعل إعلام النظام على مقتل الطفل حمزة كان من خلال روايتين: الأولى أن من قتله وشوه جثته هم العصابات الإرهابية. في وقت لاحق، وبعدما تحدث مئات الشهود الذين كانوا إلى جانبه لحظة اعتقاله إلى وسائل الإعلام الأجنبية والعربية، تغيرت رواية النظام، فقال: إنه لم يكن طفلًا، وإنما كان شابًا بالغًا، وكان في طريقه للاعتداء على نساء الضباط في مساكن قرية صيدا، وفي الحالين كان التلفيق واضحًا، لكن ترداد الكذبة مئات المرات وتوجيه النظام لمؤيديه للترويج لها جعل منها قصة لا يزال مؤيدو الأسد يرددونها حتى الآن، دون حسبان للمنطق والحقيقة.

في الغوطة الشرقية، وفي المعضمية إلى الجنوب الغربي من دمشق، وفي 21 آب/ أغسطس 2013 ألقت طائرات الأسد غاز السارين على المدنيين فقتلت خنقًا أكثر من 1500 شخصًا، معظمهم من النساء والأطفال، ويومئذ روت مستشارة الأسد، بثينة شعبان، لقنوات عالمية، قصةً غريبة قالت فيها: إن الإرهابيين خطفوا 1500 مدني من محافظة اللاذقية، من بعد 400 كيلومترًا إلى الغرب، وجاؤوا بهم إلى ريف دمشق، وألقوا عليهم قنابل تحمل غاز السارين! وعلى الرغم من أن لجنة تحقيق دولية أكدت أن النظام هو من ارتكب الجريمة، وبأهالي ريف دمشق تحديدًا، ظلَّ مسؤولو النظام وإعلامه يُرددون القصة الخيالية نفسها، حتى إن وليد المعلم، وزير خارجية الأسد، حين عقد مؤتمرًا صحافيًا؛ لتوضيح موقف النظام من الضربة الصاروخية الأميركية على مطار الشعيرات، قال، بلا وازع من مهنته الدبلوماسية: إننا لم نستخدم المواد الكيماوية سابقًا ولا الآن ولا في المستقبل.

لعلَّ أطرف ما أشاعته أجهزة إعلام النظام هو تلك الرواية الكاريكاتيرية التي تقول: إن ملايين المتظاهرين في سائر المحافظات السورية كانوا يتعاطون حبوب الهلوسة التي توزعها قناة الجزيرة الفضائية عليهم، ومعها ورقة مالية من فئة الخمسمئة ليرة سورية، ملفوفة مع سندويش فلافل لكل متظاهر، وحكاية أخرى أكثر طرافة تقول: إن ملايين المتظاهرين إنما ذهبوا إلى الشوارع؛ ليشكروا الله على نعمة المطر الذي انهمر مدرارًا ذات يوم من أيام الثورة.

أما لماذا كل هذا الكذب المفضوح واتهام الآخرين بالكذب في الوقت نفسه؛ فلأنه لا يمكن للقاتل أن يعترف بجريمته طالما يملك القوة العسكرية ودعم لا محدود من قوى كبرى، تجد فيه وسيلتها لتحقيق أغراضها، وهو كَذبَ، وظلَّ يكذب؛ حتى بات أتباعه يصدقون الكذبة، ويعيدون روايتها على أنها حقيقة لا يطالها جدل أو منطق، ألم يقل الأسد في خطابه الثاني، بعد قيام الثورة، متهمًا المتظاهرين والصحافيين، وكل وسائل الإعلام العربية والأجنبية: إنهم يكذبون ويكذبون حتى صدقوا كذبهم. وهو في الواقع كان يمهد بذلك الاتهام لهذا النوع من التلفيق المزدوج الذي اعتمده مع إعلامه ومؤيديه: يكذب ويفبرك، ويتهم غيره بالكذب والفبركة، ومع تقلص نفوذ داعميه، شيئًا فشيئًا؛ بسبب الضغط الأميركي والأوروبي، سيفقد نظام الأسد قدرته على الكذب، ولاشك في أنه سيستسلم، كرهًا أو طواعية.




المصدر