هل كان لسورية يومًا مؤسسة عسكرية؟


رعد أطلي

كلما حصل اعتداء من دولة أجنبية على قوات الجيش السوري، تعالت صيحات التيار الرمادي، وبعض من ينتمون إلى الثورة، بضرورة فصل الجيش – لأنه مؤسسة عسكرية للدولة السورية- عن نظام الأسد، بل إن كل الحلول السياسية التي تُطرح الآن تُركز على ضرورة الحفاظ على المؤسسة العسكرية وبناء الجيش الوطني على أسسها، والتواصل مع الشرفاء من الضباط في الجيش السوري لبناء تلك المؤسسة من جديد. لكن هل حقًّا هناك ضباط شرفاء، بالمعنى العسكري لا الأخلاقي، أي هل هناك ضباط مخلصون للمؤسسة العسكرية؟ بل هل هناك، في سورية، مؤسسة عسكرية تابعة للدولة السورية عبر تاريخها؟

في استعراض التاريخ السوري، بعد استشهاد وزير الدفاع يوسف العظمة في معركته ضد الفرنسيين، وتفكك الجيش السوري بكامله، كانت هناك بداية جديدة لتكوين جيش خاصّ بالكيان السوري القائم تحت الانتداب الفرنسي، وقد قسّم الفرنسيون بداية الكيان الجديد إلى عدة دويلات (العلوية والدرزية ودولة حلب ودمشق)، وأسسوا، من تلك الدويلات، فِرقًا عسكرية تابعة لهم ضمن جيش الشرق الفرنسي، وأبدى أبناء الأقليات استعدادًا أكبر للانضمام في صفوف ذلك الجيش؛ لأسباب تتعلق بالأوضاع المعيشية في الدرجة الأولى.

بعد خروج الفرنسيين من سورية تكوّنت نواة الجيش السوري من الفرق السورية المشاركة في جيش الشرق، وكانت التركيبة الخاصة بالجيش الوطني السوري لا تُشكّل ذلك التجانس الوطني بقدر ما تُمثّل حالةً من التشرذم العقائدي الموروث من قبل جيش الشرق، فمن أصل ثماني كتائب للمشاة، أيام الفرنسيين، كانت هناك ثلاث كتائب مُشكّلة بالكامل من الطائفة العلوية، ومن بين سرايا الخيالة الاثني عشر لا توجد سوى السرية 24 من الطائفة السنية العربية، وبعض العناصر في السرية 25 و21، في حين تكونت جميع الوحدات العسكرية الأخرى من العلويين والدروز والإسماعيلية والشركس والأكراد والأرمن، ولكن هذه التركيبة قبل الجلاء لا تدل على تركيبة الجيش بعد الجلاء، إلا أنها تُبيّن أن الجيش في بنيته الرئيسة والعقائدية كان مفككًا لجماعات مختلفة، وقابلًا للتناحر على أساس تلك الجماعات، وبعد الاستقلال كانت ضربة حرب النكبة في 1948 موجعةً للجيش السوري ومطلقة عصر الانقلابات في سورية، وكان أول تلك الانقلابات من حسني الزعيم الذي كان له أسباب سلطوية وسياسية؛ إذ كان لأكرم حوراني، زعيم حزب العربي الاشتراكي وأحد أهم قيادات حزب البعث لاحقًا، دورٌ مهمّ في الترتيب لذلك الانقلاب، وتوالت الانقلابات الأخرى، من قادةٍ في الجيش على قادتهم، فالحناوي على الزعيم، والشيشكلي على الحناوي، والأتاسي على الشيشكلي، وهذا يدل على أن المؤسسة العسكرية لم تملك البنية المؤسساتية التي تُدرجها ضمن مؤسسة متماسكة، تعتمد سياسة استراتيجية واحدة، بقدر ما كانت مؤلفة من عدة جماعات أقرب إلى الشكل الميليشياوي، تتحيّن كل جماعة منها فرصةَ الصعود على الأخرى وبسط سلطتها، ومن ثم؛ في وقت لاحق، بعد انقلاب آذار/ مارس، تصفيتها.

بعد انقلاب الانفصاليين على جمال عبد الناصر في 1961، جاء انقلاب البعث على الانفصاليين، وتسلمت اللجنة العسكرية البعثية الحكمَ في البلاد، وسرعان ما أقصت القيادات المدنية لحزب البعث، وفي تلك المرحلة يظهر جليًا تفككُ الجيش السوري إلى مجموعات، لا يمكن أن تُدرج ضمن تسمية مؤسسة عسكرية كما في مصر مثلًا، وبعد الانقلاب سُرّح مئات من الضباط الكبار والمتوسطين الخارجين من نطاق اللجنة البعثية، وكانوا بداية كلهم من غير البعثيين، وعلى رأسهم الناصريون، ورُفّع أعضاء اللجنة العسكرية إلى أعلى المراتب في الجيش السوري؛ إذ لم يكن بشار الأسد سابقةً في هذا الأمر، فقد كان حافظ الأسد، عند استبعاده في 1961، ملازمًا، ثم أصبح في 1966 لواءً، وكذلك ترفّع صلاح جديد، بعد الانقلاب مباشرة، من رتبة مقدم إلى رتبة لواء، ومحمد عمران من رتبة عقيد إلى رتبة لواء، وفهد الشاعر من رتبة عقيد إلى رتبة لواء، وغيرهم، واستُبدل مدرسون وضباط احتياط بالضباط المسرّحين، وبهذا الفقد الكبير من الخبرات، وتحكم قليلي الخبرة بقيادة الجيش واهتزازها، تناوب على وزارة الدفاع بين 1963 و1967 ثمانية وزراء وخمسة رؤساء أركان، وبهذه الطريقة، دخل الجيش السوري حرب حزيران/ يونيو، وخسرها؛ لأنه لم يدخلها جيشًا وإنما دخلها مجموعات متصارعة فيما بينها، ومع انقلاب 8 آذار/ مارس، بعد تصفية كل الضباط خارج نطاق البعث، بدأ البعث في تصفية داخلية لجماعاته، وكانت الضحية الأولى الضباط الموالين لأكرم حوراني، ثم مناصري زياد الحريري، وفي 1966 مناصري أمين الحافظ، وتلاه المجموعات الدرزية التي ناصرت سليم حاطوم وفهد الشاعر، وفي خضم الصراع، بين جديد والأسد، صُفّيت مجموعة أحمد سويداني الحورانية الصغيرة. في ظل هذا الصراع وفي قمته بين الأخيرين، اندلعت حرب حزيران، وكانت أولى الكتائب التي انسحبت من الجبهات كتيبة الدبابات، بقيادة رفعت الأسد الموالية لأخيه، ولواء المدرعات، بقيادة عزت جديد الموالي لصلاح جديد.

بدأ صلاح جديد يعتمد على عناصر من الطائفة العلوية، منذ الانقلاب في تثبيت حكمه، ولا سيّما أن للعلويين تواجدًا قويًّا في الجيش تاريخيًا، قد لا يظهر على مستوى الضباط بالقدر الذي يظهر في صف الضباط؛ إذ كانت نسبة صف الضباط العلويين في الجيش السوري، في الخمسينيات، تتجاوز 50 في المئة، ومع الوقت تزايد الوعي بذلك، ولعل ذلك لثقته بتبعيتهم له أكثر من كونه توجهًا طائفيًا لديه؛ إذ تشير كل الحوادث إلى راديكالية صلاح الجديد القومية الاشتراكية، أكثر من توجهاته الطائفية، ولكن الأسد كان على وعي أكبر بضرورة استخدام “العلويين” وتشكيل بنية التزام طائفية ترتكز عليهم، وعلى الرغم من أنه كان تحت سلطة صلاح جديد، فقد استثمر في ذلك المشروع، واستطاع في 1969 إغلاقَ الجيش في وجه القيادة المدنية للبعث وفي وجه صلاح الجديد، وفي وجه السوريين عمومًا، ليجعل منه جيش الأسد المرتبط به حصريًا، بعد تصفية كل الجماعات الأخرى، بعد انقلاب البعث، وحرص الأسد الأب، طوال مدة حكمه، على جعلِ الجيش مؤسسة أسدية، وعلى إهانته بوضعه تحت تصرف قادة الأمن والاستخبارات.

في ضوء ما سلف نرى أن الجيش السوري لا يُشكّل مؤسسة عسكرية قائمة على أساس تنظيمي، يسعى للحفاظ على المؤسسة بقدر ما هو مشروع شخصي يسعى للحفاظ على الشخص ويربط وجود المؤسسة بوجوده.

في مصر على سبيل المثال، حكمت المؤسسة العسكرية منذ “ثورة” الضباط الأحرار، وعندما واجهت عرقلة واضحة أزاحت مبارك عن الحكم واحتفظت بالسلطة؛ لأنها قادرة تنظيميًا على إعادة إنتاج نفسها بشخصيات جديدة إذا اضطر الأمر، بينما في سورية فلا يمكن للجيش أن يُزيل الأسد ليبقي حكم المؤسسة العسكرية، وهذا ما يطمح له الروس منذ البداية، لأن الجيش ببساطة مرتكز بكل توازناته وبنيته التنظيمية الحقيقية على الأسد، لأنه ليس مؤسسة مستقلة، في الأصل، ليكون مؤسسة وطنية.




المصدر