النظام يحابي “أقلياته”… الكهرباء طيلة عيد الفصح

24 أبريل، 2017

هيفاء بيطار

ثلاثة أيام كانت كالحلم بالنسبة إلى السوري الذي تنعّم بعدم انقطاع الكهرباء في بيته، طوال أيام عيد الفصح المجيد، ولكن هذا التنعم لم يكن لأي مواطن سوري، بل للسوري الذي يسكن في الأحياء التي تضمّ أكبر عددٍ من المسيحيين، حيث يلعلع صوت فيروز شجيًّا، تغني تراتيل عيد الفصح، من رحلة درب الآلام للمسيح حتى فرح القيامة والحياة الأبدية.

وفي الواقع، إن مؤسسة الكهرباء التي تريد أن تحابي وتدلل الأقليّةَ المسيحية، بعدم قطع الكهرباء، قد فاتها أن شوارع كثيرة في اللاذقية لم تلمح الكهرباء ولم تتنعم بها، مع أنها تضم أغلبيّة مسيحية أيضًا، فعلى سبيل المثال، (مطرانية الروم الأرثوذكس) و(كنيسة مار نقولا) كلاهما يقع في شارع العوينة، وهناك تسكن آلاف العائلات المسيحية، وعلى الرغم من ذلك، فإن وزارة الكهرباء تركت سيادة المطران قابعًا في الظلام هو وجيرانه المسيحيون، ربما لأن العوينة شارع فقير، أو ربما لأن اسمه (العوينة) يُشبه “العوايني”، أما المسيحيون الأثرياء والذين يسكنون قرب مشفى الأسد (عفوًا، مشفى الروس، حاليًّا)، ويُسمى شارع الأميركان، حيث تتجمع فئة كبيرة من المسيحيين الموالين للنظام حتى نقيّ العظام، وفيه اختلطت ترانيم فيروز الجنائزية الحزينة بأغاني موالية للرئيس من مغنين موالين.

وأنا، مع الأسف، كنت واحدة ممن لسعتهم الكهرباء بنورها المتواصل في الأيام الثلاثة ـ أيام عيد المسيحيين ـ ولكني لم أفرح، بل إنني شعرتُ بالإهانة؛ لأن إخوة وأصدقاء لي لا تأتيهم الكهرباء ساعةً في اليوم. لا يحتاج تفسير الأمر إلى ذكاء على الإطلاق، ولا إلى تحليل يستند إلى قواعد المنطق، فالنظام يتعمّد ذلك، ويشتغل جيدًا كي يبدو حامي الأقليات، وها هي الأقلية المسيحية الساذجة تفرح وتتباهى بأن الدولة غمرتها بالكهرباء أكثر من ثلاثة أيام، بينما الشوارع الأخرى غارقة في الظلام. السؤال البريء الذي طرحه عليّ طفلٌ، لمّا يتجاوز السادسة من عمره “خالتو، معناها الدولة بتقدر تجيب الكهربا على طول ودايمًا”. وقد وافقتُه، فسألني توضيحًا، فربّتُّ على كتفه، وقلت: سوف تفهم لاحقًا.

أنا أؤمن أن غاية النظام واضحة وهي استمالة الأقليات، والإيحاء لهم بأنه يحترم مناسباتهم الدينية. وفي يوم جنازة المسيح، أحرجتني صديقتي بضرورة الذهاب إلى الكنيسة لأشارك في طقس واحد على الأقل، فحضرت، ولم أفهم عِظة الخوري، فقد كانت سياسيةً بامتياز، إلى درجة أنها كانت تشبه تمامًا “نشرة أخبار الميادين والإخبارية السورية”، وفي لحظةٍ تشابه عليّ الأمر، ولم أفهم إن كان صاحب الغبطة (المطران) يمتدح الرئيس أو يسوع. تركت الكنيسة مصحوبة بشعور خانق بالألم، وتمنيت لو أني أشارك أحبتي وإخوتي السوريين من كل الطوائف نعمةَ انقطاع الكهرباء. أجل أقول نعمة.. لأن النعمة الحقيقية في حياتنا هي المشاركة، لا أريد أن أُدلل أو أُميز عن أخي السوري لكوني مسيحية، أريد أن نكون كلنا متساوين في المواطنة وفي الآلام والأوجاع. ولماذا، في شهر رمضان الكريم، لا تُنعم الدولة على إخواننا المسلمين بفيض من الكهرباء! ألأنهم أكثرية سنية؟ ألم يجرّنا هكذا نظام إلى التفكير بهذه الطريقة، وإلى جعل الناس يستعملون دومًا التعبيرَ الشعبي الذي يدل على اللامساواة “الناس خيار وفقوس”؟ وأمام النفوس المحتقنة والغاضبة التي تقف على شفير الانهيار العصبي وهم يفكرون في لغز مبادلة أهالي الفوعة والزبداني ومضايا، وموت المئات من المدنيين الأبرياء، والمطالبة بتحقيق نزيه في استعمال السلاح الكيماوي وكشف من استعمله، وعلى خلفية الدم والموت الجماعي والإجرام ولامبالاة المجتمع الدولي، أتى عيد الفصح ليزيد من غضب وسخط المواطن الذي يرى أن الدولة تميّز بين سكانها وتغرق الشوارع المسيحية (كما تصنفها هي) بالكهرباء، بينما بقية اللاذقية بالكاد تأتيهم الكهرباء ساعة واحدة في اليوم. واضح أن الغاية هي خلق شرخٍ “بين المسيحيين وبقية الطوائف”؛ إذ يبدو المسيحي هو الابن المدلل للنظام، فلماذا الإصرار على تكريس الأنانية الفردية ليصبح شعار كل مواطن “أسألك نفسي يا رب” وكل أهل اللاذقية يعلمون أن الشيخ الفلاني الموالي للنظام حتى نقي عظامه لا تنقطع عنده الكهرباء، حتى المصعد في بنايته يعمل على الكهرباء طوال اليوم، ويستفيد منه الجيران، وهم فرحون بتميّزهم من الآخرين. وكأن ما ينقصنا في هذا الوضع الذي بلغ قمة المأساوية في سورية هو أن نزيد الشرخ بين المواطنين، بدلًا من زيادة اللُّحمة الوطنية التي نسمعها فقط من أبواق السلطة. أما على أرض الواقع فالأمر معكوس، ورائحة الكراهية تنتشر في كل ناحية، أصبحت الطوائف تكره بعضها، وكلٌّ منها يعتقد أنه هو المدلل لدى النظام، المسيحيون بكونهم أقلية ومعظمهم موالين، السنّة الذين هم الأكثرية، ويطالبون بمعاملة بالمثل مع المناطق المسيحية، والعلويين أيضًا الذين خسروا شبانهم في سبيل النظام. ولا أنسى الأستاذة الجامعية من الطائفة العلوية، وقد عاشت 17 عامًا من عمرها مع ألطف وأرق جيران من الطائفة السنية الكريمة، وكانوا يباركون لها نجاح أولادها ويزور بعضهم بعضًا في المناسبات الاجتماعية والدينية؛ كيف انقلب تفكير الحاصلة على دكتوراه في الهندسة، وهي الأستاذة الجامعية، لتقرر مصممةً أن تترك جيرانها السنّة، وتسكن في منطقةٍ غالبية سكانها من الطائفة العلوية، معللة تصرفها هذا بأنها لاحظت بعض الطلاب من إدلب يرشقونها بنظرات حقدٍ؛ فخافت أن يذبحوها، على الرغم من أن هؤلاء الطلاب سكنوا المدينة الجامعية في اللاذقية بعد أن تدمرت بيوتهم في إدلب بسبب البراميل المتفجرة. وكما في رواية “بيضة النعامة” للمبدع القبطي (رؤوف مسعد) حيث يبين أن الدولة هي المُحرك الخفي والأساس للصراع الدموي القبطي السنّي. كنت أتمنى أن ترفض الطائفة المسيحية هديةَ العيد –الأشبه بالخازوق– والمقدمة للمناطق البرجوازية في اللاذقية، كهرباء الأيام الثلاثة. كهرباء ثلاثة أيام متواصلة كانت كافية كي تصلبني، وتشعرني بالخزي والألم على شعبي الحبيب الغارق في النور. متى سيدرك هذا الشعب المُروَّع والموجوع أن القوة في الاتحاد، وأننا كلنا شركاء في وطنٍ حبيبٍ، اسمه سورية.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]