صرخات وهمسات: ثنائية الصخب والصمت في مكان واحد


معتز نادر

ربما ليس ثمة فيلم للمخرج السويدي “العظيم”، إنغمار بيرغمان، وربما في السينما العالمية، يَشي ويغوص في قلق وإرهاصات عالم النساء السرّي، كـ فيلم صرخات وهمسات (1972)، فمنذ اللحظة الأولى لمشهد البداية، مع ضباب الصُبح الهادئ، لحديقة المنزل الفخم، ورنّات الموسيقا المتوعدة، يغرينا المخرج بيرغمان بالدخول إلى هذا العالم النسائي، مذكرًّا إيانا -في الوقت نفسه- باللحظات الخاصة بـ “سينما المفكر”

مع نصف الساعة الأولى من الفيلم، وبداية التعرّف إلى أبطالهِ النساء الأربع، الأخوات: اجنس، كارين، ماري، الخادمة (آنا)، ينتاب المشاهد إحساس متصاعد بالتواطؤ الشفاف، بين الهدوء الكامن في أرجاء المنزل الكبير، من جهة، وصُخب الذاكرة العاطفية لأصحابه الأخوات الثلاث من جهةٍ أخرى، وجلبها إرث العائلة الأرستقراطي المتحفّظ غير المفصح عن دواخله، في عشرينيات القرن الماضي، والناجم –أيضًا- من تلك اللحظات الخاصة جدًا، لالتقاء مكاني لنساءٍ وحيداتٍ أسيراتٍ لعزلتهنّ، ولحزنهنّ المتنوع، قبل أن يُعيدنا المشهد الأخير الختامي والواقعي، إلى عجلة الحياة، عند افتراق الشقيقات وجلسة اقتسام الممتلكات. أما لحظة مغادرتهن المنزل بمظلاتهن، بدا كأنه إيحاء غير مباشْر لجشع الطبقة الأرستقراطية واستعجالها الفرار من المنزل الكئيب وخادمته المسكينة “آنّا” التي لم تتلق أي مكافأةٍ أو التفاتة جادةٍ على خدمتها مدة طويلة، لا من الشقيقات ولا من أزواجهن، وأن ما يعتمل في نفس الشقيقات من تداخلاتٍ وتناقضاتٍ كان أسير ذاتيةٍ مفرطةٍ، مقارنةً بموقفهن غير المحترم، تجاه الخادمة، آنّا، التي تُركت دون أي تعويض يذكر، سوى أن تظل مقيمةٌ في المنزل أسابيع أخرى قليلة، قبل أن ترحل؛ ما يطرح تساؤلًا وجوديًا مهمًّا، حول متانة أخلاقياتنا ومدى أنانيتنا عندما يتعلق الأمر بأشيائنا وممتلكاتنا الخاصة! الأختان كارين وماري كانتا مثالًا على ذلك، فعلى الرغم من عالمهما الداخلي المتشعب، إلا أنه -في النهاية- لم يعكس نضجًا وتعاطفًا، وظلّتا أسيرتي تداخلاتٍ عاطفيةٍ سحيقةٍ لشخصياتٍ منعزلةٍ أسيرةٍ للذاتية والحرمان العاطفي.

إن ما يميز هذا الفيلم إضافة إلى جوهره الغني، هو عجز الشخصيات الرئيسة عن التعاطف تعاطفًا حقيقيًا مع ما يدور حولها؛ إذا ما استثنيا الخادمة. هذه السمة المميزة لأوروبا ذلك العصر. نلحظ ذلك عند مشهد هلع الأخوات من الاقتراب من شقيقتهن المحتضرة، في أثناء صراخها. هن يساعدن شقيقتهن ويَقمن بغسلها، ولكن في قمة ألمها وحاجتها إليهن، يكنَّ بعيداتٍ غير حاضراتٍ والحقيقة الثابتة في أعماقهن، تكمن في كونهن يشمئزّن منها.

أغنس المريضة

أغنس أكبر أخواتها –لعبت دورها الممثلة هارييت أندرسون– وهي قريبةٌ من الموت مع مرضها العُضال المتفشي في جسدها، وحيدةٌ مع صدى صراخها الموجع وإحساسها المضني بأنها مقصيّةً برفقة عذاباتها أكثر من أي وقت مضى.

في أحد المشاهد تصيح في وجه من في المنزل: “أليس ثمة من يخلصني من هذا الألم”. لكن مرض أغنس ليس كُلّ حكايتها؛ بل هي مثل شقيقتيها كارين وماري، لها سرها الخاص، امرأة تعيش في منزل الأسرار الدفين هذا! ففضلًا عن مرضها، هي كائنٌ حسّاسٌ، تكتب خواطرها وتصورها عن الموت. تتذكر تفصيلًا دقيقًا حينما كانت تراقب ملامح أمها في طفولتها، وتضع يدها على خدها في مشهدٍ ممزوجٍ بالحنين إلى الماضي، ورغبةٍ بالعطف على مريضٍ مقبلٍ على الموت؛ ليس من أقرب الناس إليه فحسب؛ وإنما من أي إنسانٍ على هذا الكوكب. تبدّت ذروة ذلك في مشهد معاينة طبيب العائلة لها، عندما دنا منها كأنها تقول له ابق حانيًا قربي للأبد، لا تبعد يديكَ عني. وربما وشت نظراتها -أيضًا- بعشق قديم للطبيب.

أما أغنس، الأم الراحلة هي الغائب الحاضر. تأثيرها واضح فيها، على الرغم من أن ظهور الأم في الفيلم كان كالطيف الهادئ، لكن العزلة الخفية والطبع المُنتظر لشيء في داخل الأم، انتقلا إلى بناتها أكثر من أي موروث أخر. الوحيدة التي عطفت فعليًا وحقيقيًا على أغنس، في محنتها -بعيدًا عن الأختين المنشغلتين بتأوهاتهن، على الرغم من اهتمامهن التقليدي بأغنس- هي الخادمة آناّ.

آنَا:

لعبت دورها الممثلة كاري سيلُان. هي بدورها صامتةٌ حسّاسةٌ بالغة الحنان والطيبة، في مشهد من أقوى مشاهد الفيلم، تحتضن أغنس وتقدّم ثدييها الدافئين لها بعد ان شعرت الأخيرة بالبرد، لكن طيبة كاري ليست سطحيةً، بل واعيةً ومفعمةً بالخصوصية؛ فعندما صفعتها الأخت الوسطى (كارين) وحاولت ان تعتذر منها بعد ذلك؛ هزّت رأسها رافضة من دون أن تتكلم! إنها لا تهادن مع الخطأ غير المنطقيٍ. إنها -في الفيلم- الاختلاف الجلي عن باقي النساء. إنها العاطفة الأنثوية النقية الفاتنة في داخلها، الخالية من التعقيدات الزائدة.

كارين وعالمها

لعبت دورها أنغريد ثولين، وهي الأخت الوسطى وأشدهن تعقيدًا وتداخلًا من الناحية النفسية، من باقي شقيقاتها. متزوجة من ثريٍ تقليديٍ بارد الهيئة؛ بليد الإحساس نوعًا ما، ولا ينسجم قط مع الصخب الجنسي المتراكم داخلها. وما مشيتها المتزنة وملامحها الجليدية التي تليق بأخت كبرى -في ذلك الزمن- إلا قناع خارجي لسرّها الجنسي المكتوم والسحاقي أحيانًا، مثلما ظهرت لاحقا في مشهد القُبَل، هامسةٍ منزويةٍ، إذ جمعتها مع شقيقتها الصغرى اللعوب، في مشهد ضعف منها، كشف هشاشتها أمام الإغواء العاطفي، مع أنها كانت تحتقر تصرفات شقيقتها الصغرى غير المسؤولة، بحسب منظورها. سحاقية كارين لا تنبع من شذوذٍ بقدر ما هو تكريس لمشاعر كبت هائلة لديها. ما قبل الرحيل عن المنزل، تُمسك شقيقتها الصغرى وتهمس لها (ماذا عن تلك الليلة) كانت كمن يطلب الرحمة الجنسية، وفي لقطة سرياليةٍ رهيبةٍ -تٌعدٌ الأبرز في الفيلم- جرحت ما بين فخذيها، واستلقت على السرير تلثم دمائها، وتمسح وجهها به! ربما هو تكفيرٌ عن إحساسٍ بالذنب وانتقام من مشاعرها الشاذة تجاه ِقيم العائلة الثرية الشديدة الانضباط.

كارين لا تتحمل أن تكون عطوفةٌ أو رقيقةٌ؛ إنما تفضّل أن تكون جافة، وتعطي انطباعًا بأنها قاسيةٌ وإيجابيةٌ في بعض المواقف. نرى ذلك عند مشهد ضغطها على الخادمة، كي تقبل اعتذارها، بعد صفعها لها ورفض الأخيرة الاعتذار.

ماري اللعوب:

الشقيقة الصغرى لعبت دورها الممثلة ليف اولمان، وهي نسخة عن أمها في الشكل، وليس في المضمون؛ إذا ما أخذنا في الحسبان أن الأم امرأة تحمل في طياتها هَمسًا عميقًا. إنها امرأة متزوجة ولديها أطفال، وتنضوي شخصيتها على الثقافة العملية الحياتية، والخبث العائلي للنساء الأرستقراطيات. منذ البداية تعطينا انطباعًا بأنها غير متحفظةٍ على مستوى التعبير عن مشاعرها؛ ملامح وجهها وشقاوته علاقتها مع حبيبها القديم؛ طبيب العائلة، وإقامتها علاقةً غراميةً معه. من الجلي أنهما لم يرتبطا بسبب تقليد الزواج، عند تلك الأسر، لكن بالنسبة إليها يبقى فرصة إقامة علاقةٍ سريةٍ أمرٌ واردٌ جدًا، وهي لن تفرط بهذه الفرصة. في مشهدٍ من أروع المشاهد يأخذ الطبيب ماري من يدها أمام المرأة، ويصف طبيعتها اللعوبة غير المبالية؛ وصفًا دقيقًا، بينما هي تجيب بأن قدرته على وصفها ينبع من شعوره بأنهما متشابهان. ماري في النهاية ليست ممن يحب توفير المتعة هي متأقلمة مع فكرة زواجها، لكنها لا تريد أن تتأقلم مع فكرة كونها كذلك وحسب؛ بل إنها ما زالت عاشقةً –أيضًا- وحاضرةً بقوة من الناحية العاطفية.

حول الفيلم

حضور الرجال في الفيلم جاء ليعزز ما يدور داخل النساء، فكارين، على الرغم من أن زوجها كان باردًا، وربما متحجرًا، إلا أنه من الصعب تخيّل شابٍ رومانسيٍ، إلى جانب كارين، وسط طبعها العاصف المكبوت، بينما شخصية طبيب العائلة كانت ملائمةٌ -إلى حدٍ بعيدٍ- لإنجاز علاقة الحب بالنسبة إلى ماري. فالطبيب مثقفٌ وجذّابٌ ويفهم النساء، ويبدو أنه لا يكترث لشيء من حوله، ولن تزعجه إقامة علاقةٍ مع إمراه كانت حبيبته يوما ما.

أداء الممثلين لا يُعلى عليه. مع طاقمٍ يُعدّ أستاذًا في توظيف اللغة الجسدية، بما ينسجم مع الطبيعة الداخلية. وليس غريبًا أن يكون من بين ممثلي بيرغمان المفضلين الذين ظهروا في أدوارٍ مهمةٍ سابقةٍ في أفلامه، مثل: ليف اولمان بطلة “عاطفة آنّا”، بيرسونا أو انغريد ثولين، بطلة “الصمت، وضوء شتاء”، أوهارييت أندرسون، بطلة “عبر زجاج مظلم”..

الديكورات والأزياء ساهمتا بدرجةٍ كبيرةٍ في نقل الصورة الحسية، وجعلتنا أمام عشرات اللوحات التعبيرية. كذلك الأطر (الكادرات) والمونتاج، وغيرها من العناصر التي عززت قيمة الفيلم الكبيرة.

صرخات وهمسات” يحمل صمتًا وبرودًا مترقبًا، ويحمل جموحًا كامنًا، وربما هذا ما كان يريد أن يقوله الفيلم: بأننا إذا ما تأملنا أعماقنا، سنكتشف أن فيها جنوحًا يحاكي ما كان في شخصياته.




المصدر