نادر القاسم والعشب القريب من الشاهدة


تهامة الجندي

قلمي بيدي، و”العشب القريب من الشاهدة” أمامي، وأنا أحدق في الصور الشعرية، ولا أدري كيف أبدأ! الحزن جليل بين أهداب القصيدة، وهو يقطع خطوط النار إلى المدن الغريبة، والحنين يفيض مثل دموع السماء، وأنا أدور في رحى الذهاب والإياب، ومثل شاعر الأبيات، أحلم منذ طفولتي أن أتنفس هواء لا يشاركني فيه مستبد:

قلبكِ بحذافيره

مروركِ بين غرفتين

استيقاظي الصباحي وأنا أستعد لكِ

الحقيبة المرتبة قبل السفر

وجع المدينة في الصميم

ما يحضّره القاتل في الظلام

النور الشاسع قبل الظل

اللون الأزرق لروح لؤي كيالي

ثلاثة قبور على يمين الطريق

واحد للمجهول

والثاني لهنانو

والثالث للجابري

على اليسار وحدي

قد تكون لازالت خلفي

أبواب حلب المغلقة.

أتأمل قصائد نادر القاسم في مجموعته الشعرية الأولى، وتدهشني قدرته على اختزال الفائض من الكلام، وتشكيل الصور بأبسط وأقل المفردات. مثل نحات يصقل المعاني، يزيل عنها النتوءات والحواجز لتذهب مباشرة إلى قلب الشعر، وتتقابل في مواشير تعكس انكسارات الروح عند ثنائيات متضاربة، من الرفض والخوف، الحب والفقد، الانتماء والاغتراب، وتأبى أن تسحب ظلها عند الختام، قبل أن تنثر العطر والألوان مثل الفواصل ونقاط النهاية في مشهد تقطع أوصاله آلة الموت:

جبانة هي الطلقة الصامتة

دونما حفيف تأتي

ما أجمل الموت الفاضح

يتيح لنا

أن نستحضر

في شهقتنا الأخيرة

صورة

من

نحب

الاختزال والتكثيف في تشكيل الصور الشعرية، يجعل المفردات أشبه بالعلامات الموسيقية، ويجعل القصيدة أشبه بوتر مشدود ينقر القلب، ويترك فيه رعشة في شكل سؤال أو غصّة، تارة بإيقاعه القلق كضربات “القدر”، وأخرى بلحنه الرقيق مثل سوناتا “ضوء القمر”:

الشغف هو أن تقف

تحت مطر أول الصباح

وتوهم الآخرين

بأنك تعد نقاطه

بينما أنت

ترسم في الهواء وبالماء

وجه

من

تُحب.

ويطل وجه حلب من كل مكان في المجموعة، المدينة العريقة التي احتضنت تجربة الشاعر وأحاسيسه أربعين سنة، بعد أن قَدِم إليها من الحسكة في مقتبل الشباب، وقبل أن يضطر لمغادرتها إلى الدانمارك عام 2014. يتأمل في معالمها وناسها ومثقفيها، يغوص في جراحها وخسائرها، وهي تخوض معركتها ضد الغياب والموت، في الخفاء وفي العلن منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين:

الحرب ليست عادلة

لم تكن يومًا أليفة

توزع فداحتها كساعي بريد

أولى رسائلها رصاص

أو ربما قذائف

الطوابع الصغيرة صور القتلى

مختومة بشراسة حمراء.

ينتقل الشاعر من بيته إلى القصر العدلي؛ ليمارس مهنته محاميًا، ويخرج خائبًا من أروقة القضاء الفاسد إلى شوارع المدينة ومقاهيها، يدخل ساحة الاحتجاج، يشهد تفاصيل المحرقة والتهجير القسري، ويتساءل إن كان ما يراه جثثًا بين الأشجار، أم أشجارًا بين الجثث؟ ثم يقف وحيدًا وأعزلَ، يعاتب الإهمال والصمت على الجريمة برهافة تُخجل أي ضمير حي:

طيور مهاجرة تَعبُر الآن سماء حلب

هي أقرب للقالق

شكرًا لهذه الكائنات

إذن

هناك

من

يتفقدنا.

يقرع القاسم ناقوس الخطر، ويرى الشر في “الكلاب التي تنبح ولا قافلة تسير، السماء الزرقاء التي تأتي منها الطائرات، قدم تنزل درج آخر الليل، والمصعد الذي تنقطع عنه الكهرباء فجأة”، ويجد الخيانة في: “احتراق قلب المدينة القديم، الجثة المقنوصة التي زحفت إلى مدخل المبنى، ولا أحد يأخذ بجرحها”، ويرسم صورًا جارحة عن الغياب والفقد، تجمع كل الكائنات المعذبة التي تتقاسم الفضاء المستباح:

وحده الفراغ اللئيم

يكنس آخر مظاهر الأحياء

لمن كان في هذا البيت

ووحده قط العائلة

الذي انسل من هذه المعادلة

يقفز كل لحظة

كي لا تفقد الحركة ذاكرتها من المكان

يتخيل أحضان من سيعود قريبًا.

وبين ذاكرة المعركة الطاحنة وطاولة اللجوء يخطر طيف الحب معادلًا لطوق النجاة، يحمل ألوان الدفء وأحلام المستقبل في ملامح أنثى، لا يكتمل وجود الشاعر إلا بحضورها، ومع ذلك تظل بعيدة، ويبقى وحيدًا يقتفي رائحة عطرها، وإشراقة روحه بقربها، ممتنًا وشاكرًا نعمة مرورها الخاطف في حياته وخياله:

يكفي أن تطوّقني يداكِ

حتى تشكل بحيرة

يكفي أن أفكر في حقول الكرز

فوق شفتيكِ

حتى تسقط حنينا ولهفة

كل فاكهات العالم

يكفي أن تتقشري أمامي

مثل الكستناء

حتى تقترب السماء من الأرض

يكفي أنك في حياتي

حتى أشعر بأني في منطقة عازلة من الخوف

أو

في ممر آمن

لحياتي المرتقبة.

يكتب نادر عن القواسم التي تجمعنا بشرًا، يحق لهم أن يحيوا بكرامتهم في فضاء مشترك يليق بإنسانيتهم، يكتب وجع السوري، وهو يحاول انتزاع حياته وحريته من بين فكيّ مفرمة القمع، يكتبه جميلًا وجليلًا، يليق بحجم الضحايا وألم الأرض، وهي تستقبل كل يوم، مزيدًا من الدم النازف والخراب:

الشر كل من يركل فكرة بقدمه اليمنى،

كل من يحفر بوجدانه الضال،

كل من ينام والسوري عينه مفتوحة في الخيام.

الشر هذا العالم الذي نعيش فيه

هذا الذئب الذي ينهش قلبي وقلبك وقلب هذه المدن

لا ليأكل وإنما ليرسم لوحة الدم.

“العشب القريب من الشاهدة” مجموعة شعرية، المؤلف: نادر القاسم، الناشر: دار كتابوك للنشر الإلكتروني/ فرنسا 2017.

24/3/2017




المصدر