العنف الواقعي في فضاء افتراضي


يسعى الإنسان بطبيعته إلى الأمان، لكن حين يكون في موقعه الأقوى، فإن أمانه الوحيد مرهون في إخافة مقابله، سواء كان هذا المقابل عدواً أو نداً أو مماثلاً يتفوق عليه ويخشى تفوقه.

في مراحل زمنية أخيرة أثبت العنف تفوقه الدائم في التعبير عن الإرادة البشرية، وعكَس الفضاء الإلكتروني الواسع ارتدادات العنف من خلف الشاشات.

لا تسجّل الأضرار المرتكبة وتبقى ضد مجاهيل وتضيع، بل أحياناً يتم الفعل بموافقة جمهور واسع متفرج وابتهاجه بالجريمة الإلكترونية.

 

المرأة في مواجهة العنف الإلكتروني

مواقع التواصل الاجتماعي خلقت نطاقاً سهلاً لتقارب الأمكنة والأزمنة بين المستخدمين ومع كل الفرص الإيجابية التي وضعت العالم في غرفة واحدة للتقارب وتجاذب التجارب، تشكلت بالمقابل سلسلة من الفجوات في  الخطابات التي نالت من رمزيات وقضايا عديدة، ووضعت المرأة بشكل خاص في مواجهات إلكترونية عنيفة.

مشاهدات متكررة لانتقال المرأة من معركتها الكبيرة الإنسانية إلى معارك تخص وجودها الشخصي مع أول محاولة مقصودة للضغط عليها والتي ما تلبث أن تتحول لحصار جمعي.

يستطيع فاعل مجهول ببساطة أن يحرك شائعة ملفقة أو أن يرفع صورة شخصية لناشطة في الشأن العام، ويفتح الهجوم عليها من باب صفاتها الأنثوية، حتى إن كان هناك باب صغير يستطيع العامة فتحه على نقاش قضية مطروحة أو تقصير ما في مهمة شعبية أو اختلاف إيديولوجي، وهكذا يتم تحريف الخطاب وتحجيمه ليأخذ الشكل الأسهل في الهجوم والعزل المجتمعي الواقعي، بعيداً عن المحاججة العقلية الصعبة.

الأمر ذاته يتكرر مع الخيارات الشخصية لنساء اعتبرن أن الالتزام بزي معين أو التحرر منه أمر شخصي كالحجاب والنقاب والأزياء المعبرة عن ثقافة معينة بشكل عام، حتى بعد امتناع المرأة عن مناقشته، يُطرح كساحة عامة للتشهير بدون أدنى محاسبة لمخترقي هذه الخصوصية.

الاختلافات السياسية أيضاً لم تكن كافية لمحاججة امرأة وتوضيح أوجه الاختلاف معها، بل يلجأ المعنِف دائماً لإثبات ذكوريته من خلال فرض قائمة مملة من خصائص متخيلة، على المرأة أن تتصف بها، وتتواطأ نساءٌ لا يعنيهن العمل بالشأن العام في تعزيز هذه السرديات.

أما على مستوى الكلمة فقد سجلت النقاشات الافتراضية كماً هائلاً من استخدام شتائم جنسية، مع أول اختلاف بجعل النقاش يهبط إلى مستوى متدنٍ ومغلقٍ لا يمكن الخروج به إلى نور العقل، وطبقة كبيرة من المجتمع مدانة رغم وعيها بالأمر المشين.

تتدنى الجرائم أحياناً لتصل إلى حد التهديد الحقيقي بالقتل أو فضح خصوصيات أو تهديد الناشط الرجل بأقرب النساء صلة إليه كوالدته وأخته وزوجته وبناته باستخدام المرأة الأقرب في حياته كرهينة لعزله عن قضيته، تفاعل الضحية أيضاً بشكل سلبي وخائف دائماً دون اللجوء إلى محاسبة المعتدي أو ملاحقته تؤدي إلى عواقب سيئة، ورغم تشكل لجان وهيئات في بعض البلدان للتقصي وتعقب هؤلاء المعنِفين، لكن يبقى قراصنة الخطاب عصيين عن الإدانة.

 

شخصية قراصنة الخطاب

تهتم هذه الشخصية بطرح خطاب يحرك أفكار المجتمع الأبوية أو يمس اعتقاداته القديمة المرتبطة بشرف الأنثى، تسعى لوضع المرأة في تحديات لمواجهة معايير مغروسة، وأفكار تعكس لغة ديماغوجية موجهة ضد شخصيات معينة للنيل من تفوق وجودها أو نضالها.

تصوغ هذه الشخصية هيكلاً للعنف وتمهد للتسويق الشعبوي له من دواعي ميسوجينية، من قبيل أن المرأة تنقاد للأحاسيس أكثر مما تسترشد بالعقل، وعن تدني ذكاء المرأة ونقص الحكمة لديها، وعدم الاتزان في حمكمها على الأشياء، أو عدم صلاحيتها للسياسة أو القيادة، أو من خلال إطلاق أحكام وتخريج تهم شرعية تخص إدارتها للشأن العام والتشكيك بقدرتها العقلية. التشكيك أيضاً طال قدرتها على ممارسة الفضائل الأخلاقية على نحو ما يفعل الرجل، وممارسة الشعائر الدينية ونقصان دينها وكماله ومقدار امتلاء الجنة والنار بها، كل هذه التصنيفات ترسبت ببطْءٍ من خلال تأثير شخصيات لها وزن فلسفي كتأثير أفلاطون وأرسطو في المجتمع اليوناني الأبوي إلى شوبنهاور و وينيجر ونيتشه، مروراً بثقافة حريم السلطان العثمانية وصولاً إلى ثقافتنا الشرقية الحديثة وما تحمله من تشوه لمزيج حضاري مع أفكار متكلّسة تتكسر فور محاولة تقويمها، وثقافتنا الأولى بتحميل حواء الذنب الأول بخروج الجنس البشري من جنات عدن إلى عذاب الحياة.

تراث هائل غير معني بالنقد أو المراجعة قدم صورة ذات أثر على المرأة، لا يمكننا التراجع عنها بهذه البساطة، تحتاج لإعادة تشكيل الصورة الرمزية التي كونها المجتمع الشرقي وقرصنها عبر الزمن عن مكانتها الأنثى، وعن حقها بالتعبير عن هذه المكانة بطريقتها غير الملوثة.

ثمة رغبة خفية تدفع لاستخدام الأسلحة الافتراضية على طريقة الصحافة الصفراء، في تعزيز سردية خطابات عنيفة تضرب في أصول القضية الإنسانية التي تسعى إلى احترام الإنسان، والعمل الدؤوب على حفظ حقه باحترام حياته وخياراته وعقله وأحاسيسه، والجرائم الإلكترونية كغيرها من الجرائم موجهة ضد الجميع بشكل عام، لكن تمس المرأة بشكل أساسي عند إطلاق سلسلة من السرديات الجامدة والتي نحاول تفكيكها كنساء على الصعيد الأول، هذا العنف الحقيقي والملموس والمجازي بحاجة هامة وجدية لخلق استراتيجيات تقوم بتتبع القراصنة وحماية المعنفات من السلوك الجمعي ومن المجرم الفردي الذي يعيش في أمنه المتخيّل.

 

تنشر بالتعاون مع شبكة الصحفيات السوريات



صدى الشام