البديل السوري الغائب والمغيَّب


منير شحود

تأخر الوقت كثيرًا عن المراجعة الشاملة والعاقلة لمواقف المعارضة/ المعارضات السورية، ومع ذلك، لا يمكن المضي قدمًا، أو تجنب لعنة التاريخ، ما لم نُقدم على تلك الخطوة المنتظرة، وهي بناء مشروع وطني متكامل؛ يكون بديلًا عن المحاولات التي حرقت معظمها مجريات السنوات الماضية. لا بدّ أن يكون المشروع الجديد جاهزًا ليقوم بدوره فور وقف الحرب وبدء العملية السياسية؛ فيلاقي التوافق الدولي الذي طال انتظاره، ويعيد الاعتبار إلى مفهوم الحرية من خلال تقديم طروحات سياسية قابلة للتحقُّق.

يا لها من كارثة أخرى أن يغيب البديل السوري حتى الآن، وأن نقف مكتوفي الأيدي ولا نحتجّ على تغييبه أو نفعل شيئًا لتجسيده! إن غياب أو تغييب البديل الديمقراطي للاستبداد يطيل من أمد الصراع على الأرض السورية، ويمنح الدول المنخرطة فيه المزيد من الوقت والحجج حتى تستكمل توافقاتها وتؤمن مصالحها على حساب الدم السوري. ونظرًا إلى عدم قدرة البدائل الإسلامية المتوافرة حاليًا على الاستجابة لمتطلبات العصر، فسيتوقف الكثير على الحضور الوطني السوري من عدمه، فيما يدفع غياب هذا البديل إلى تحكُّم الأطراف الدولية في رسم السياسات المستقبلية المتعلقة بسورية لعشرات السنوات القادمة.

لن يكون ما يُبيَّت لسورية خارج السياق السياسي المعمول به على الأرض العربية المضطربة، ومنها الدكتاتوريات العسكرية التي هي الحل التلقائي لكبح الإسلاميين من جهة، وضبط حركية المجتمعات العاطفية من جهة أخرى، والمخرج الأسهل من أتون حربٍ لا يفهمها العالم غير حرب أهلية حرقت كل الاحتمالات الديمقراطية، وأبعدتها إلى خلفية المشهد الدامي.

وهكذا، لا يمكن تجاهل احتمال ظهور “سيسي” جديد من بقايا المؤسسة العسكرية أو من المنشقين عنها، إنه الخيار الأسهل الذي يمكن أن يتفق عليه الروس والأميركان، ولا يعارضه المقاتلون التعبون من الحرب؛ لأنه “خشبة الخلاص” التي لن تجد من يقف في وجهها غير مجاهدي السنة والشيعة المتطفلين على القضية السورية برمتها، ومن المفترض أن يطيح بهم هذا الخيار المنشود. الخيار “السيسوي” هو ما يريده الروس، إن تحقق لهم الاستفراد بالملف السوري، ولكنّهم ليسوا الوحيدين في هذا التّصور. نشير في هذا الصدد إلى أن ثمة رتبًا عسكرية عالية مخبأة في كواليس المخابرات الدولية، وهي جاهزة لوضعها في قمة هرم الخراب السوري.

المثال الأوروبي لهذه الحالة يمكن استحضاره، نسبيًا، من أسبانيا، إذ انتهت الحرب الأهلية فيها، قبيل الحرب العالمية الثانية، بانتصار اليمين بقيادة الجنرال فرانكو، ثم تحولت هذه الدولة في سبعينيات القرن الماضي إلى الديمقراطية، بعدما نضج المجتمع المنهك من الاستبداد لتقبُّلها على نحوٍ تلقائي.

تتحمل المعارضات السورية الحالية مسؤولية كبيرة، في ما يتعلق بغياب البديل الوطني؛ بسبب الطريقة الملتبسة التي تشكلت بها، ولتواطئها مع الأطراف الإقليمية التي احتضنتها وسخرتها لتحقيق مصالحها على حساب مصلحة الشعب السوري في نهاية المطاف. من هنا، ليس لهذه التجمعات المعارضة مكان على منصة الإنقاذ الوطني المقترحة التي يجب أن تقطع مع كل ما حملته الأعوام السابقة من أدران طائفية وماضوية، وتضع مصلحة الأجيال القادمة في صلب مشروعها الإنقاذي.

على المشروع الجديد أن يتوجَّه إلى السوريين كافة من دون أيّ إقصاء، ويصحِّح، عمليًا، طروحات “المجلس الوطني” وخليفته “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة” حول إقصاء فرقاء سوريين كثيرين بحجج مختلفة، ودفعهم للتنحي جانبًا. لقد كانت تلك طروحات سياسية لطرفٍ في حرب أهلية يريد القفز إلى السلطة، ويتحمل أصحاب هذا النهج جزءًا مهمًا من المسؤولية عن الانقسام الحاصل في المجتمع السوري، فضلًا عن استغلال وإعاقة محاولة التغيير التاريخية الجريئة التي خاضها المنتفضون السوريون الأوائل في وجه الاستبداد.

وفي الوقت الذي تقوم فيه القوى المتصارعة على الأرض بتنسيق مصالحاتها ومعاركها، والقوى الدولية بترتيب أولوياتها، تنحصر مهمة القوى الديمقراطية السورية في تكوين البديل السياسي القائم على المشروع الوطني الشامل، من دون الخوض في التحالفات ذات الطابع العسكري، وهي من المقاس الدولي والإقليمي بامتياز، إنما العمل على انتزاع المصلحة الوطنية السورية من بين أيدي اللاعبين بالحنكة السياسية، والإصرار على المطالبة المحقة بالعيش في دولة عصرية لا تعادي ولا تحابي أحدًا، تحت أي عنوان أو انتماء، سوى ما يصب في مصلحة السوريين، ويعود بالخير والسلام على بلدهم. في الواقع، لا يشكل ما سبق ضغطًا على القوى الدولية ويحثَّها على الإسراع في ترتيب البيت السياسي السوري فحسب، بل ويمنعها، في ذات الوقت، من التمادي في تجاهل مصالح السوريين.

في كل الأحوال، لا بد من أدوات سياسية جديدة ومستقلة، ولا يمكن بناء بديل سياسي للبناء والإعمار باستخدام الأدوات السياسية لمرحلة الحرب. وربما ستكون هذه هي المحاولة الأخيرة بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة التي يمكن أن تستند، دوليًا، على القرار 2254 و”سوريًا” على توافقات القاهرة، وتنافس القوى السياسية الأخرى التي سيفرزها النظام و”قوات سوريا الديمقراطية”، كقوتين فاعلتين على الأرض، وذلك في طريق التغيير المنشود والمصالحة الوطنية الشاملة.

ثمة بعض المحددات التي يمكن اعتمادها لتلافي الفشل مرة أخرى، منها توجيه الخطاب إلى الشعب السوري كله، عوضًا عن ادّعاء تمثيله، ورفض كل المشاريع الإقصائية والتقسيمية على الأرض السورية، واستبعاد الهيئات والشخصيات المعارضة التي لم تقم بأي مراجعة جدية لأدوارها في المرحلة السابقة، وتلك التي تلوثت بممارسات عنصرية وطائفية. كما أن البحث عن آليات تمويل غير مشروطة يُعدُّ أساسًا لاستقلالية القرار والتعامل مع الأطراف الخارجية من خلال لعبة المصالح ومساوماتها.

ليس من المغالاة القول إن بقاء سورية متوقِّف، إلى حدٍّ كبير، على إرادة النخب وقدرتها على تكوين بديل ديمقراطي يمنح الأملَ للسوريين من جديد، بعد كل هذا الفشل والتخبُّط والتبعيّات، ويقدّم لهم البديلَ العملي والمرن للاستبداد، ليكون نقطة ارتكاز يمكن الانطلاق منها نحو المستقبل.




المصدر