في الدولة الإسلامية (1_2)

26 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017
9 minutes

عبد الواحد علواني

[ad_1]

استيلاء الاتجاهات المتطرفة على مسمّى الدولة الإسلامية، سواء كانت سنية أو شيعية، وما رافقه من انتهازية ودعاية وتشويه من قبل اتجاهات قومية وطائفية، تحت شعار العلمانية والمدنية، أفسد هذا المسمى، وبات مرتبطًا بخنق الحريات العامة، والعنف، واختزال الشريعة في إقامة الحدود، مع أن التسميات ذات بنية سياسية، أُصّلت دينيًا عبر تأويلات محدودة وصارمة، وذلك بالبحث عن مستند نصي أو سلوكي، وتأويله بما يناسب فرضها سيفًا مقدسًا على رقاب شعوبٍ، تحلم بأن تنال فرصتها في الحياة بشيء من الحرية والكرامة وإمكانية التعبير عن هوية خاصة.

فهل تمثل هذه النماذج، فعلًا، مآل كلّ سعي لإقامة دولة إسلامية؟ وما الدولة التي تناسب تطلعات الشعوب الإسلامية، وهم يمثلون أكثر من خُمس سكان عالمنا المعاصر؟ أم أنهم يجب أن يتقبلوا مفهوم (الدولة الحديثة) بتعريفه وتفصيله الغربي وخلفيته الثقافية المغايرة، وكأنه قدر لا بدّ منه من أجل الاعتراف بأي مجتمع، بأنه دولة قابلة للحياة والتعاطي مع المجتمع الدولي؟

لا شك أن قراءة تاريخ الدول الإسلامية يوضح طبيعة الدولة وتطورها أو تدهورها، وإن كانت هذه القراءة لا ترمي إلى تبني نموذج معين منها أو خلطة ممكنة بين أكثرها تميزًا، إنما الغاية بحث طبيعة الدولة المعاصرة والحديثة التي لا تشعر المسلم بالغربة عن تراثه وأخلاقه والتزاماته وهويته، وبالتالي تمنحه الأسباب الكافية والموجبة للانتماء إلى المجتمع والعمل على تقدمه ونهضته وتنميته والحرص عليه؛ ومن ثمّ الانتماء إلى المجتمع الإنساني العام بتفاعل إيجابي مرضٍ. بمعنى آخر نتحدث عن دولةٍ معظم سكانها من المسلمين، ويحق لهم في الحد الأدنى ألّا تُغمط حقوقهم كما يفهمونها، من دون أن تشكّل حقوقهم انتقاصًا من شأن عقائد أخرى. أي أن يعيشوا في وسط يناسبهم ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، لا أن يكونوا غرباء في بلدانهم، تحت طائلة الاتهام لمجرد أنهم يقولون: الله أكبر!

كانت دولة المدينة تتلمس طريقها تأسيسًا، ولأن التأسيس كان متعدد المسارب، لم تكتمل أدبياته ومؤسساته التي تناط بها مهام متخصصة خلال عهدها الأول، في إطار التوسع الذي ميز عهد أول خليفتين، وصراع المؤسسات الناشئة في عهد الخلفيتين من بعدهما، لكن مع ذلك كانت هناك إشارات ومبادئ تدخل في إطار الممارسة والجدل، مما يعني فضاءً تجريبيًا تراكميًا، ونقاشًا واسعًا لتكوين نظام معرفي وفلسفي من جهة، وإداري اجتماعي من جهة ثانية، وتداولي تبادلي مع البيئات المحيطة من جهة ثالثة.

نظام معرفي ينتمي إلى العصر الموازي لها من حيث بنية القيم السائدة ونمطية الإنتاج على المستوى البشري العام. الأمر الذي بدأ يتكامل مع العهد الأموي، ومع أول سلطة أموية، حيث كان العقد الاجتماعي للدولة يتشكل وفق طموح اللحظة، مقرونًا باتفاقات ومعاهدات مع القوى المعاصرة لها، هي في النهاية تمثل شرعية وجود الدولة، ومدنيتها التي تعني في حينها حق التمتع بالقوة والتنظيم والتنمية. وعلى الرغم مما اعتور النموذجَ الأموي من لحظات استبداد وتخبط، كان الطابع المدني هو الغالب من دون أن يعني ذلك أنه كان نموذجًا مثاليًا، أو نموذجًا توقيفيًا غير قابل للتطور والتغير حسب تغير الظروف المعرفية والسياسية والإنتاجية. ما يميز هذا العهد أنه كان منفتحًا على فضاءات التجربة من دون أن يتوسل سيف المقدّس كسلطة غير قابلة للنقاش، ليبقى المنظور الديني المحايث والموازي في إطار الاجتهاد الذي لا يمكن تسليطه سيفًا مقدسًا غير قابل للنقاش، كما هو الحال مع نظام الفتوى، حتى وإن اقترن الاجتهاد بالإكراه والعنف أحيانًا، فإنما كان ذلك استنادًا إلى الغلبة والتمكن من السلطة، لا الاستعانة بتأويل ديني مقدس، يمنع نقاشه أو رده.

الدولة الأموية المدنية التي سقطت تحت سنابك الحشود العباسية البدوية، ترحلت نحو بقعة بعيدة لتكمل تجربتها في الأندلس على أطراف المساحة الإسلامية، بينما هيمنت على مركزها سلطة بدوية بدأت بحق الانتساب إلى آل البيت في مزيج ديني قبلي قريشي، رفع سيف المقدّس منذ اللحظة الأولى، ومهّد لظهور نظام الفتوى الذي حوّل أي نقاش حول المجتمع والدولة والهوية والسلطة إلى نقاش عقدي، يستند في فرضه على نصوص مقدسة وتمثلات من السير الأولى، مما حول الجدل السياسي إلى جدل عقدي مهد للافتراقات المذهبية. وهيمنة نظام الفتوى الذي ظهر في جماعات محدودة قبل العهد العباسي والتي كانت شاذة عن المشهد العام كالخوارج مثلًا، وتحول خلال العهد العباسي إلى أداة رئيسة للسلطة والصراع السياسي والفكري عليها.

البنية العقدية للسياسة والإدارة التي ظهرت كممارسة وإطار لبنية الدولة مع استحواذ العباسيين على السلطة التي لا يمكن إنكار إسلاميتها حتمًا، لكن من دون أن يعني ذلك أن احتكارها السلطوي يمثل الرؤية الإسلامية الحتمية والمحددة، سواء كانت الرؤى رؤية سلطة مهيمنة، أو رؤى معارضات منافسة، صارعت من أجل الهيمنة على السلطة. هذا النكوص العباسي نحو الرمزية الدينية (صلة القرابة مع النبي صلى الله عليه وسلم) كان انقلابًا على الخطاطة المدنية المتصاعدة، الخطاطة التي رجحت كفة معاوية بن أبي سفيان في الاستحواذ على السلطة بدلًا من علي بن أبي طالب، على الرغم من القبول الواسع للأخير في معظم الرقعة الإسلامية آنذاك، وشرعيته المستندة إلى نمط انتقال السلطة خلال العهد الراشدي. ما كان يشكله علي بن أبي طالب من رمزية وريث للبيت النبوي، حُجبت مع بداية عهد أبي بكر الصديق في مقولته المشهورة: (من كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ)، حيث فصل بين الرمز والرسالة، مؤكدًا على ديمومة الرسالة لا الرمز. ثم تجلى ذلك في مرحلة عمر بن الخطاب، إذ كان النص ثقافة وفضاء، وليس تشريعًا قطعيًا. لم يجد المسلمون حينئذٍ، في كثيرٍ من قرارات عمر، أي حرج أو تعارض مع روح الرسالة، على الرغم من تعطيلها لأحكام واردة بوضوح.

المحاججة بالنصوص سادت في المركز الإسلامي (مثلث الشام بغداد الفسطاط)، بينما استكملت التجربة الأموية تجربتها الحضارية في الغرب الإسلامي، انشغل المركز بالانقسامات المذهبية والفرقية وتكوين المدارس الفقهية، والصراعات السياسية، وانشغلت الأطراف بالفلسفة والفن والموسيقى والعلوم. فظهرت (دولة السلطة) في المركز، بينما الأندلس بنى (سلطة الدولة)!

كانت الأندلس نموذجًا متقدمًا لا مثيل له، خبا أمامه تاريخ روما وأساطير أثينا، حيث كانت بنية الدولة تمتد إلى تنظيم كل شؤون الحياة اجتماعيًا وإداريًا واقتصاديًا إضافةً إلى العلوم والفنون والعمارة والفلسفة، وصولًا إلى الزراعة والصناعة والتجارة. كان نموذجًا إسلاميًا مدنيًا باهرًا على الرغم من الصراع المرّ جهة الشمال الأوربي، وبعض الاحتكاكات جهة الجنوب الإسلامي. ما كان لحكم الأندلس أن يستغرق ثمانية قرون لولا النزعة المدنية الإسلامية، ولا كان للتجربة الأندلسية أن تكون إحدى أهم المراحل الحضارية في التاريخ الإنساني.

ما يهم في التجربة الأندلسية هو قربُها الشديد من مفاهيم الدولة الحديثة، وتجاوزها حتى للدول التي أتت بعدها، والتجربة الضريبية بحد ذاتها قد تكون ملهمةً حتى للأنظمة الضريبية الراهنة، لما امتازت به من يُسرٍ في الجباية، وإعادة توزيع الثروة في المجتمع، من دون أن يمحو ذلك النزعة الأرستقراطية المولدة للفنون والعلوم المختلفة.

[ad_1] [ad_2] [sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]