من الدولة الليبرالية الأوروبية إلى الدولة الغازية


حبيب عيسى

لقد اكتملت الأمم الأوروبية تكوينًا، مع انهيار إمارات الإقطاع (القبلية)، وتوافق ذلك مع انحسار سلطة الكنيسة (الإمبراطورية)، وتلازم مع تطور نظام اقتصادي جديد (البرجوازية)؛ وبما أن البرجوازية هي التي ركبت موجة الصراع ضدّ الأوضاع المهزومة، فقد استغلت الظروفَ لمصلحتها بأقصى ما يمكن؛ إذ اعتمدت قانون الحق الطبيعي ليفتح الأبواب على مصاريعها أمام أرباحها (دعه يعمل، دعه يمر)، وفي هذا الصدد، يقول “رادومير لوكيل” الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة بلغراد: “تبنّى منظرو الطبقة البرجوازية الجديدة نظريةَ الحق الطبيعي، واستخدموها، فأخرجوا منها نتائج ثورية، حافظت عليها المدرسة الأرثوذكسية للحق الطبيعي في العهد الإقطاعي. وكان منظروّها الرئيسيون هم غرويوس، وهوبر، ولوك، وروسو. إن المستجد الأساس لهذه الصيغة الجديدة، في نظرية الحق الطبيعي، يقوم على أنها، من جهة علمانية، عقلانية؛ مضمونها الحق البشري والعقل البشري، لا الإلهي؛ فالعقل البشري مُتشابه بالنسبة للجميع؛ الحرية، المساواة، قداسة الملكية الخاصة اللامحدودة، وإذا لم يتوافق الحق الوضعي مع الحق الطبيعي، المُحدد هكذا، وجب هدمه بالثورة، واستبدال حق آخر به.”(1).

لقد كان التحرر من سيطرة أمراء الإقطاع والنبلاء (القبائل)، ومن سطوة رجال الكنيسة، حاجةً مُلحّة للأمم والشعوب الأوروبية، وكانت مصلحة البرجوازية الناشئة هناك في التخلص من تلك الأوضاع أيضًا، وكان قانون الحق الطبيعي مُنطَلقًا لتلك الأمم، في الانعتاق من التضيّيق الفكري والحياتي، ومجالًا رحبًا للتعبير عن حرية الرأي، وفتح كل الأبواب للإبداع في مجالات الثقافة والفن والقانون، بعد عصور طويلة من الاستبداد والظلم والكبت. وفي الوقت ذاته، كان القانون الطبيعي أساسًا مقبولًا ورائعًا للنظام البرجوازي، لرفع كلّ القيود عن نشاطه؛ فكل منتوج سواء كان صناعيًا، أو زراعيًا، أو سياسيًا، أو اجتماعيًا، أو فكريًا، يجب أن ينزل إلى السوق ويتبع للتنافس، والشاطر يكسب.

(2)

هكذا دخلت البرجوازية الأوروبية العصرَ الجديد من أوسع أبوابه، وهكذا تشكّلت الدول الأوروبية، بحدودها المعروفة المتطابقة مع واقع تكوينها القومي، وكانت إمكانية البرجوازية هي الأقدر بعد انهيار سلطة الإقطاع، وسطوة الكنيسة، وكان لها قصب السبق؛ فسيطرت على سلطات تلك الدول، وفرضت عليها المنظومة القانونية التي تُناسب النظام البرجوازي، وتتيح للرأسماليين تحقيقَ مآربهم، وسيّرت جيوش تلك الدول لتغزو العالم؛ فتجلب لها الثروات وتفتح لها الأسواق.

من هنا جاء الخلط بين البرجوازية، والأمة، وعُمّمَ هذا النموذج الأوروبي بكل السّبل والوسائل الممكنة على العالم، من أول الجيوش، إلى آخر الجامعات والمدارس العلمية.

لكن، هل لهذا الخلط ما يُبرره؟

النظام الرأسمالي، بوصفه نظامًا اقتصاديًا، يفتح كل السبل للربح وتنمية رأس المال، وهو تطوير عصري بوسائل عصرية، لنظام سبق تكوين الأمم بآلاف السنين، وتطور خطوة فخطوة، بتطوير الوسائل لتناسب كل مرحلة، لتحقيق المزيد من الربح، إلى أن وصل إلى شكله الرأسمالي الذي رأى البعض أنه الشكل الأخير لاستغلال الإنسان الإنسان، لكن سرعان ما تطور إلى الشكل الإمبريالي، ولا أحد يستطع أن يقطع إلى أي شكل يُمكن أن يتطور، قبل أن تتحرر منه البشرية، أو يتمكن هو من تدميرها. على أي حال، فإن هذا حديث آخر، لكن ما يجب أن نؤكده هنا هو أن الرأسمالية لا تُنسب إلى الأمة (أي أمة)، ولا تُنسب إليها الأمة (أي أمة). (الرأسمالية) نظامٌ يتأصل فيه الأصل القبلي اجتماعيًا، وتستهدف البشرية كلّها سياسيًا.

لقد بدأ النظام الربوي في قبائل اليهود، ومن المُفيد أن نُتابع الإسقاطات المعاصرة، لأفكارٍ قيلت في العصر القديم:

لقد وعد الإله الخاص (يهوه) شعبَه بأن يقوده “إلى مدن عظيمة لم تبنها، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وآبار محفورة لم تحفرها، وكروم زيتون لم تغرسها”(2).

ماذا فعل الاستعمار المعاصر (الاستعمار الرأسمالي)، أكثر من ذلك…؟، وماذا تفعل الإمبريالية الحالية غير هذا؟

قال حكماء صهيون: “اضربوهم، وهم يضحكون. اسرقوهم وهم لاهون. قيدّوا أرجلهم وأنتم راكعون. ادخلوا بيوتهم واهدموها. تسللوّا إلى قلوبهم ومزقوها”. ومن قبلهم قال “إله” بني إسرائيل: “إني أدفع إلى أيديكم سكانَ الأرض فتطردهم من أمامك”(3).

(3)

إذًا، لا مجال للخلط بين النظام الرأسمالي وتكوين الأمم؛ إذ إن الأمم تكوين اجتماعي يتجاوز فيه المجتمع بالتفاعل، والاختصاص بالأرض مرحلة الشعوبية، والقبلية، بمعنى أن الأمم تتجاور وتتعاون وتتفاعل مع بعضها البعض، وتتبادل المنافع، وتحترم حقوق الأمم الأخرى، وبذلك فإن البشرية تضرب صفحًا عن مرحلة الغزو والسلب والسبي والاغتصاب التي تُميز المرحلة القبلية، ثم الإمبراطورية. ومن ثمّ؛ فإن كل أمة تتميز من أمّة أخرى، لكنها لا تمتاز عليها؛ لإن الشعور بالامتياز والتفوق والحق في الاستيلاء على حقوق الآخرين شعورٌ قبلي، وهذا ما فعلته النظم الرأسمالية الأوروبية.

فما كادت الأمم والشعوب الأوروبية تنعم بالتحرر من العسف الإقطاعي، والكنسي، وتتعدّد منابر الرأي والرأي الآخر، وهمت لتمارس الشعوب تفاعلها الخلاقّ، وتُنتج روائع الفن والثقافة، وتفتح الباب واسعًا للاجتهاد والفقه في عصر الأنوار، حتى زجت الرأسمالية الأوروبية تلك الأمم والشعوب الأوروبية، في أتون ماكينة تحقيق الربح للرأسماليين، وهكذا كان على الأوروبيين أن يعملوا مع نسائهم وأطفالهم مدة 18 ساعة يوميًا؛ ليتمكنوا من تحقيق دخلٍ لا يحقق لهم أكثر من إعادة إنتاج قوتهم، ليمكنهّم من الاستمرار في ممارسة المزيد من العمل في خدمة الرأسماليين، وعندها كان لا بدّ من استعمار الشعوب الأخرى، ونهب ثرواتها، للخروج من ذلك المأزق، وتنفيذًا لقانون تطور المجتمعات، والبحث المستمر عن حياة أفضل لتلبية المزيد من الحاجات تطورّت الأفكار الاشتراكية، لتُصبح أكثر جذرية في المناداة بدفن النظام الرأسمالي، عند هذه النقطة قادت الرأسمالية الأوروبية شعوبَ أوروبا وأممها، كما كانت تُقاد القبائل في العصور السالفة لغزو واسع، يشمل العالم كله.

صحيح أن الدول القومية قامت في أوروبا بعد مخاض طويل، لكن الرأسمالية حولت أوروبا كلها إلى قبيلة تغزو العالم. فرنسيون، وإنكليز، وهولنديون، وطليان، وإسبان، وبرتغاليون حملوا السلاح على العالم، وبدؤوا عملية امتصاص هائلة لثروات الشعوب والأمم من الأمريكيتين، وآسيا، وإفريقيا، وتصرفت جيوشهم في تلك البلدان تصرفات، يعف اللسان عن ذكرها، ولم تفعل فعلها قبائل الإسكندر المقدوني، وقبائل أوروبا تحت قيادة الكنيسة التي احتلت المشرق والمغرب العربيين، وظهرت تلك الازدواجية التي انعكست على مجريات الأحداث في هذا العصر؛ حيث الجيوش الغازية التي لقبوّها (بالمستعمرة) ترتكب الفظائع في كل أرجاء الأرض، تبث الفتن، وتنشر الأفيون، وتمزّق الأمم، وتفكك البنى، وتركّب دولًا على هواها، وترتكب العسف والتسلط على الشعوب، وعندما تضّطر جيوشها إلى التراجع تتعاون مع بعثات التبشير، وعلماء الآثار، في إقامة كيانات ودولٍ تمارس القهر، والتسلط على تلك الشعوب، لا يهمهم سوى أن تظلّ البواخر والطائرات تحمل خيرات هذا العالم وثرواته إلى أوروبا. وإنهم، حتى هذا التاريخ، يحملون آثار الشعوب وأوابدها؛ ليزيّنوا بها متاحفهم. إنهم يسرقون كل شيء حتى تاريخ الشعوب.

(4)

هكذا، في حرب طويلة سرية وعلنية، حولتّ الرأسمالية الأوروبية شعوبَ أوروبا وأممها ودولها إلى غزاةٍ، ينهبون العالم ويجمعون الغنائم، وأصبح العامل وغير العامل، في أوروبا، ينعم بحظه، مهما كانت ضئيلًا، مما ينهبه الرأسماليون من أمم العالم وشعوبه قاطبة، وانعكست هذه الازدواجية بإقامة “دول ليبرالية” مُتحضرة راقية، يُسمح فيها للشعوب الأوروبية ببعض ميزات الجانب الإيجابي من قانون الحق الطبيعي، بينما حطمّوا أمم العالم أينما استطاعوا، وجعلوها دولًا ممزقة وأشلاء، وصاغوا منظومة دولية لذلك كله، تضع هذا العالم تحت سطوتهم. لكن ذلك التحضر وتلك المنظومة القانونية شديدة التعقيد التي أقاموها، سنتقلب عليهم نقمة؛ فعلى الرغم من مظاهر التحرر والحرية التي ينعم بها الأوروبيون (في قارة أوروبا، وفي الولايات المتحدة الأمريكية)، فإن العنصرية التي يواجهون بها العالم تحولهّم، في المحصلة النهائية، قبيلةً من الغزاة ومصاصي دماء الشعوب، وستدفع قوى التحرر الحقيقية في أوروبا والعالم ثمنًا باهظًا لإزالة الآثار السلبية التي خلفوها وراءهم.

وهذا “بوردو” يتحسّس ما فعلته الرأسمالية الأوروبية في الوطن العربي، ويستبعد الانتقام، إذ يقول: “عندما يُمجّد رئيس الجمهورية العربية المتحدة، صلاح الدين، أو معركة دمياط، يبقى السياسي المُختص مطمئنًا؛ إذ إن هذا التاريخ المُتخيل يبقى من الماضي، والدم الذي كتُب به أصبح جافًا، ولن يستدعي الانتقام”(4).

لكن، هل سأل “بوردو” نفسه: إن كانت الرأسمالية الأوروبية كفّت، أو لم تكفّ حتى الآن، عن أن تجعل هذا الدم جاريًا، وسائلاً، وأن تتركه لحظة واحدة ليجف؟

(5)

في الجانب الآخر، ظهرت في أوروبا قوى كثيرة، تدعو إلى التحرر من الرأسمالية، وتُحذّر من المخاطر التي تُجر إليها شعوب أوروبا وأممها، وبشّرت بالاشتراكية، وتحلل النظام الرأسمالي، وبينت أنه يحمل في داخله عناصرَ نهايته، وتجذرت تلك الدعوات في “البيان الشيوعي”، وفي أفكار “كارل ماركس” و”أنجلز”، وعلى الرغم من حسن النوايا، فإن النتائج كانت مأساوية، فالرأسمالية كانت مُندفعة بأقصى طاقتها، وعناصر مقاومتها كانت قاصرة عن وضع حدّ لها.

فبينما كانوا يُجهدون أنفسهم ليثبتوا، بكل الوسائل، أن الحركات القومية والدول القومية، والأمم ذاتها، من صنع الرأسمالية لتوسيع أسواق العمالة والتصريف وزيادة الربح، وتحقيق الحماية الجمركية، كانت الرأسمالية قد تجاوزت الأسواق القومية للدول الأوروبية، ليشمل نشاطها أسواق العالم كلها تمهيدًا لما عُرف، في ما بعد، بـ (الإمبريالية)، وقد تولدّ ذلك كله من الاستغراق في الاستنتاج المُنفرد من النموذج الأوروبي، ومن خطأ منهجي، ومن قصور في فهم التاريخ البشري.

لقد تجاهلوا أن محمد بن عبد الله  (ص)، قبل ألف وأربعمائة عام من ذلك التاريخ، كان يقود صحابته وأتباع رسالته داعيًا إلى تجاوز الأوضاع القبلية، وإزالة آخر العوائق في اكتمال التكوين القومي للأمة العربية “أرضًا”، وشعبًا”، كانوا نفرًا قليلي العدد والعدة، والتقوا في المدينة في ظل الدستور التعاقدي (الصحيفة)، وكانت “المدينة” عاصمة الرسالة بعيدةً من مراكز نفوذ القوى العظمى، في ذلك الوقت “الفرس” و “الروم”، ولهذا كانت تضم عددًا كبيرًا من المناضلين واللاجئين “السياسيين” من العراق والشام ومصر والمغرب؛ حيث التسلط الأجنبي، وهكذا تطهّر هؤلاء جميعًا، في ظل الرسالة، من القبلية؛ فكانت تلك الرسائل الشهيرة من محمد بن عبد الله إلى كسرى الفرس، وإلى هرقل الروم، وكان يضعهم فيها أمام خيارات محددة، وقد كانت تلك الرسائل في ذلك الوقت، من وجهة النظر الموضوعية، ومن حيث إمكانات القوة التي تملكها الأطراف، أغربَ من الخيال، لكن النتائج كانت في مستوى الحلم؛ إذ حُررّت الأرض العربية من الغزاة، ولاحقت الفيالق العربية فلول الفرس إلى ما بعد جبال بختياري شرقًا، وأبعدت جيوش الروم إلى ما بعد جبال طوروس شمالًا، ولاحقت بقاياهم إلى أن طردتهم من القاهرة والاسكندرية والقيروان، وعبرت وراءهم مضيق جبل طارق، وأتيح، للقبائل والشعوب التي كانت تقطن تلك البقاع الواسعة، التفاعل والاندماج الثقافي، والحضاري، واللغوي، واختصّوا دون غيرهم بالأرض؛ فتكونّت الأمة العربية، واكتمل تكوينها الحضاري منذ ذلك الحين. صحيح أن الدولة تحولت بعد ذلك إلى دولة إمبراطورية، كالدول السائدة في ذلك العصر، وتجاوزت الجيوش العربية حدود الأرض العربية، لكنها لم تتمكن من تحويل الأمم التي اكتمل تكوينها إلى أن يصبحوا عربًا، ولم تحاول. تلك هي الأمة العربية التي اكتملت تكوينًا قبل 1400 سنة، وفي أرض الصين كان الصينيون قد اختصوا بالأرض، وشكلوا أمة، ومثلهم اليابانيون، والهنود، والفرس، والمغول والعثمانيون.

إن تجاهل ذلك كله، وإسناد تكوين الأمم والحركات القومية إلى البرجوازية التي لم تظهر نظامًا سائدًا إلا في القرن الثامن عشر، وفي أوروبا أولًا، أوقعَ قوى التحرر من الرأسمالية، في أوروبا وغيرها، في خطأ جسيم تفاقمت نتائجه، عندما غزت البرجوازية الأوروبية شعوب الأرض وأممها، وبدأت عملية سيطرة استراتيجية على العالم، بتحطيم البنية المجتمعية للأمم المُستهدفة لشل مقاومتها، وكان تحقيق ذلك يتطلب تأسيس دول، لا تتطابق مع حدود الأمم الوطنية والاجتماعية والجغرافية، وإنما تُحطمّ الأمة إلى عدة دول، وكان ذلك  ممكنًا، واستخدام تلك “الدول” لتكبيل تلك الأمم، والقضاء على أسباب تطورها، ونموها، وبالتالي؛ غدت كل الأفكار والمناهج والنظريات التي تُناهض النهوضَ القومي للأمم في ما يسمونه (العالم الثالث)، تصبّ في مصلحة سيطرة الرأسمالية على تلك الأمم، ومدهّا بأسباب استمرار سيطرتها عليها وعلى أوروبا ذاتها.

 

 

هوامش، ومراجع:

(1) رادومير لوكيل-الدولة والحق-مصدر سابق-صفحة (200-202).

(2) سفر التثنية اصحاح (6)، آية (16) كتاب العروبة والإسلام مصدر سابق-ص (45).

(3) العروبة والاسلام. د. عصمت سيف الدولة-مصدر سابق-صفحة (46) سفر الخروج اصحاح، 23

(4) جورج بوردو-الدولة-مصدر سابق-صفحة (35).




المصدر