القوقعة.. صرخة حرية
27 أبريل، 2017
مصطفى عباس
لم يكن صديقي وشريك غرفة السكن في بيروت شادي أبو رسلان يعلم، عندما كان يواظب على قراءة رواية (القوقعة) ويعيدها مرارًا وتكرارًا، ويخبرني أنه كلما قرأها انفجر باكيًا من القهر والضعف أمام جبروت الظلم، لم يكن يعلم أنه سيكون يومًا ما ضحيةً لهذا الظلم الذي يخافه.
ذهب صديقنا إلى ليبيا طلبًا للرزق، ثم عاد إلى سورية، بهدف الخطبة والزواج، ولكن هذا الرجل الطيب اعتُقل من قبل النظام، بعد أن وجدوا في حاسوبه المحمول علمَ الثورة، فظلوا يعذبونه حتى ارتقت روحه إلى بارئها.
عامدًا متعمدًا جعلت الكتابةَ عن القوقعة لمصطفى خليفة، في آخر السلسلة، عن أدب السجون التي بدأتها قبل أشهر، وضمت حوالي سبعة كتب، تتكلم عن تجربة أصحابها في سجون نظام الأسد. تجربة كانت كافية كي تداهمني كوابيس الاعتقال، وأعيش التجربة التي لم أعشها واقعًا. وها أنذا أنتهي من السلسلة بأفضل ما كُتب عن السجون السورية، وختامها (القوقعة).
ما يميز القوقعة عن أغلب كتب السلسلة هو أن هذه الرواية -برأيي- عمل أدبي متكامل الأركان، فيما معظم الأعمال الأخرى كانت عبارة عن توثيق الكُتّاب لتلك الفترة، وتجاربهم التي نجوا منها بأعجوبة.
صحيح أن الكثير من القصص التي جرت في ذلك المسلخ البشري المسمّى ظلمًا (سجن)، تبدو متشابهة، وبخاصة من ناحية التفاصيل التي وردت في أكثر من كتاب، إلا أن قراءتها في القوقعة ستضفي عليها قيمة توثيقية وأدبية وتصويرية، تضعك في قلب الحدث، فيوميات المتلصص تحمل قيمًا مضافة، بدءًا بذلك المسيحي الذي اعتُقل ثلاث عشرة سنة، بتهمة انتمائه لحزب الإخوان المسلمين!! بعد إنهاء دراسته للإخراج السينمائي في فرنسا، وعودته إلى سورية؛ وصولًا إلى نبذه من قِبل أغلب المساجين الإسلاميين (كونه صرّح ذات مرة أنه ملحد)؛ ما جعل البعض منهم يحلل دمه، فضلًا عن الخشية من أن يكون جاسوسًا، زرعه النظام بين المساجين لتقصّي أخبارهم. حتى بعد أن تأكدوا من أنه ليس مخبرًا، ظلوا -إلا قليلًا منهم- يعاملونه بريبة الآخر المختلف في الدين والعقائد، ما جعله يتقوقع على نفسه طوال معظم المدة التي عاشها في السجن الصحراوي المريع، “كسلحفاة أحست بالخطر وانسحبت داخل قوقعتها، أجلس داخل قوقعتي.. أتلصص، أراقب، أسجل، وأنتظر فرجًا”.
حتى توءم روحه الطبيب نسيم الذي تعرف عليه في سنوات السجن الأخيرة، ودرس كذلك في فرنسا، سرعان ما أُصيب بالجنون إثر رؤيته إعدامَ النظام ثلاثة إخوة، وجنون أبيهم قهرًا، على الرغم من أن إدارة السجن قد خيرت الأب بين أبنائه الثلاثة، فاختار أصغرهم الذي لم يكن قد تزوج بعد، وبالفعل وعدوه أنهم لن يعدموا الابن الأصغر، لكنهم -كما العادة- لم يفوا بعهودهم.
في أكثر من مؤلف وردت قصة طبيب سجن تدمر الذي تقدم لخطبة إحدى زميلاته في كلية الطب في حلب، وقوبل بالرفض، لتتزوج تلك الزميلة؛ فيما بعد، من زميل آخر، كان من سوء طالعه أنه أصبح من نزلاء سجن تدمر؛ حيث انتقم طبيب السجن منه ومن زملاء آخرين له، وجعلهم يتعرضون للتعذيب حتى الموت. وطبيب سجن تدمر هو ذاته الذي رفض إدخالَ الدواء لمعالجة المساجين المصابين بالجرب، إلا بعد أن عُرضت عليه مبالغ مالية ضخمة، حتى قال السجناء عنه إن الجرب حوّله من طبيب جربان إلى مليونير!
في سورية الأسد، كلّ شيء ممكن بالمال، حتى زيارة نزلاء سجن تدمر (المستحيلة) تصبح ممكنة، ولكن مقابل ماذا؟ مقابل كيلو من الذهب؛ تُقدّم إلى والدة مدير السجن، وهي معلومة وردت في أكثر من مصدر، إلا أن مصطفى خليفة في قوقعته، يؤكد أن أم فيصل غانم (مدير السجن)، بعد توقف الزيارات، قد حصلت من أهل المساجين على 665 كيلو من الذهب!
بالطبع لا تستطيع مقالة أن تفي رواية -بهذه القيمة- حقها، عدّها كاتبها صرخة حرية، وتبقى هذه السطور إضاءةً بسيطةً على كتاب سال عليه الكثير من الحبر؛ دراسات وبحوثًا ومقالات، وما على القارئ إلا أن يعود إلى الرواية ويقرأها، فلولاها ما عرف كثيرون أن هناك جحيمًا بشريًا يسمى (سجن تدمر)، كما قال أحد الباحثين ذات مرة.
الرواية صدرت عام 2008 عن دار الآداب في لبنان، في حين أن أغلب ما كُتب عن سجن تدمر ظهر بعد اندلاع الثورة السورية.
كان بطل الرواية الممزوجة بطعم الألم، يعتقد أنه، بعد خروجه من السجن، سيخرج من قوقعته، ولكن ما رآه في السجن، إضافةً إلى انتحار صديقه نسيم بعد إطلاق سراحه؛ جعل قوقعته الثانية خارج القضبان تزداد قتامة، من دون أن يكون لديه رغبة للتلصص على أحد سوى ذاته…
[sociallocker] [/sociallocker]