بين أيزنهاور وترامب: فصاميون بلا أخلاق


مصطفى الولي

جاءت ضربة التوماهوك الأميركية، شبه المفاجئة للجميع، على مطار الشعيرات وسط سورية، لتحرك، من جملة ما تحرك، نسقًا من الأفكار التي أقل ما يمكن أن يُقال فيها إنها منفصلة عن الواقع، ومتنكرة للوقائع والتداعيات الدموية الرهيبة التي صنعتها وحشية السلطة الفاشية الطاغية، في استخدام الكيماوي ضد المدنيين في مدينة خان شيخون في قضاء مدينة إدلب. وفي انفصالها هذا هوةٌ ممتلئة بتعفن الأخلاق الإنسانية، أو موتها.

نعم إنها أفكار ومواقف منفصلة عن الواقع؛ فأصحابها، قبل الضربة الأميركية على قاعدة الشعيرات، كانوا يتفاخرون بمواقف الإدارة الأميركية التي جاءت على لسان نيكي هيلي، مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة، حين قالت: “إن إسقاط نظام بشار الأسد ليس أولوية أميركية”. وكذلك تصريح وزير الخارجية الأميركية في تركيا حين قال: “إن مصير الأسد يقرره الشعب السوري”. بهذين التصريحين أصبحت أميركا جيدةً في نظر الموالين للنظام ولحلف “موسكو طهران وسلطة الأسد”. لم تعد أميركا الموصوفة بالإمبريالية عدوة الشعوب “شيطانًا” في نظرهم، وراحوا يرددون ما جاء على لسان هيلي وتيلرسون ليتقووا بموقف إدارة ترامب. والمؤكد أن سلطة بشار قرأت التصريحين على أنهما ضوءٌ أخضر للتوغل أكثر في الدم السوري وتدمير مناطق المعارضة؛ فاختبرت ذلك بالعملية البشعة بغاز السارين، فانقلبت المعطيات وتغيَر الاتجاه بشكل سريع ومتسارع، فعادت واشنطن لتُوصف بالعدو الإمبريالي من النظام ومؤيديه وعددٍ من مستحاثات “اليسار السوفييتي والتيار القومجي وأدوات المشروع الفارسي المذهبي”.

وبصياغة أخرى يتلخص الفصام، عند السلطة ومواليها والمدلسين لها، بعبارة:

“أميركا التي تقف معنا خير وبركة، وإن وقفت في وجهنا فهي إمبريالية شريرة استعمارية وعدوانية”. ومع ردود الفعل التي أبداها كتاب وناشطون وتيارات من المعارضة السورية، ومعهم الكثير من الديمقراطيين في البلاد العربية، حين وجدوا في تلك الضربة ضرورةً لتقديم شيء من الإسناد للشعب السوري، ولردع السلطة الفاشية الدموية، مبدين ارتياحهم لها، ليس لأنهم يحبون الإدارة الأميركية ويراهنون عليها، ولا هم أيضًا ينظرون إليها صانعةً حرية الشعوب، ارتفعت صرخاتهم باتهام كل من أيد تلك الضربة على الشعيرات التي انطلقت منها جريمة القصف بالكيماوي بأنهم خونة وعملاء للإمبريالية، وليقولوا أيضًا إن الهجوم الصاروخي على الشعيرات “دليل على المؤامرة الإمبريالية التي تستهدف” النظام الوطني وقيادة بشار الأسد، وما الثورة سوى مخطط “إمبريالي صهيوني” ضد “الممانعة والمقاومة والصمود”، علاوة على وصفها الذي لا يتوقف بأنها “عصابات إرهابية مسلحة”.

هؤلاء كانوا قد حفظوا، عن ظهر قلب، عددًا من المقولات في الفكر السياسي، يرددونها عندما تتناسب مع مقاس الموقف الذي ينحازون إليه، فلا تفوتهم مقولات:

“التناقض الأساسي والتكتيكي، وأن السياسة تعبير عن مصالح، وحين تتغير المصالح تتغير السياسات، ولا يجهلون فكرة ضرورة الاستفادة من التناقضات في صفوف الأعداء، أو أن الحكمة في السياسة تتطلب التقاط الفرصة في اللحظة المناسبة، إلى آخر ما هنالك من مقولات”. وحين لا تكون المقولات السياسية على مقاس مواقفهم ومصالح الجهات التي يعبرون عنها، يصبون لعناتهم عليها ويصنفونها أفكارًا تخدم “الإمبريالية”.

في التاريخ القريب نسبيًا، سبق أن اتخذ الرئيس الأميركي أيزنهاور موقفًا أنقذ مصر، في عهد عبد الناصر، من العدوان الثلاثي (البريطاني الفرنسي الإسرائيلي) في 1956، حين وجه إنذارًا لأطراف العدوان الثلاثي بالانسحاب من حدود قناة السويس ومن مدنها، بقرار حاسم لبن غوريون وإيدن ومولييه، مهددًا باستخدام القوة، إذا لم يمتثلوا لإرادته ويوقفوا العدوان وينفذوا الانسحاب. ولم يكن عبد الناصر صديقًا لأميركا، ولا هي وجهت الإنذار حبًا بنظام عبد الناصر. مصالح أميركا، يومئذٍ، في منع عودة البريطانيين إلى قناة السويس، وحاجتها إلى ليّ ذراع بن غوريون الذي حاول اللعب في فترة الانتخابات الأميركية، من خلف ظهر البيت الأبيض، وتأكيد أميركا للعالم كله أنها هي السيدة على الوضع الدولي، بعد الحرب العالمية الثانية، هي الأسباب الواضحة لما فعله أيزنهاور، وكان ذلك، بجزء منه، لمصلحة مصر بالنتيجة.

لا تختلف دوافع إدارة ترامب في توجيهها الضربة إلى سلطة بشار، ومن خلاله إلى الحلف الذي يعمل معه، عن دوافع أيزنهاور في الخمسينيات يوم حرب السويس. ولم يدّعِ من رأى في ضرب الشعيرات مصلحةً، ولو جزئية، لحماية الشعب السوري من الجرائم والفظائع، أنّ ترامب يقف في معسكر الحرية أو أنه يؤيد انتصار الثورة السورية على الطاغية، ولا أنه قام بعمله بناءً على طلب من قيادات الثورة السورية أو تيارات المعارضة. وفي حال صدّقنا أن عاطفته الإنسانية، حين رأى صور الأطفال المخنوقين، بغاز السارين، هي التي حركته إلى اتخاذ القرار، أو لم نصدق، يجب أن نعترف أن منطق هذا الادعاء فيه من الأخلاق الإنسانية ما لم يتوفر ذرة منها عند مؤيدي النظام ورجالاته الذين لم تهتز لهم شعرة وهم يقومون بالجريمة، ولا بعد أن شاهدوا نتائجها الوحشية وفظاعة القتل الهمجي، وراحوا يكذبون ليتنصلوا منها، وما لبث بعض أبواق النظام من “نُخب الفن والإعلام” أن عبروا عن عدم انزعاجهم من الضرب بالكيماوي، فمكافحة “الإرهاب” تبيح كل محظور!

نعم هو الفصام الذي يتغذى من انعدام الأخلاق، ويتميز به جلاوزة سلطة بشار، ومعهم الموالون له المؤيدون لجرائمه. أما وصف من وجدوا في الضربة متنفسًا لتأديب المجرم القاتل وردعه، بأنهم عملاء للإمبريالية، وخونة للأوطان، فأكتفي  بتذكيرهم أن الشعب السوري ليس هو من قرر إرسال فرقة من الجيش السوري، لتعمل تحت قيادة أميركا في حفر الباطن ضد نظام صدام حسين، ونظام بشار اليوم يستميت للتموضع في الخطة الأميركية في المنطقة، وقدّم، بعظمة لسانه، أكثر من طلب انتساب للتحالف مع أميركا، في ولاية أوباما ثم في عهد ترامب. كما أن قوى الثورة والمعارضة ليست هي من يغض النظر عن انتشار القواعد الأميركية في الأراضي السورية، ولا هم من قدّم لها التسهيلات لاحتلال المساحات الواسعة من البلاد.




المصدر