تعقيدات المسألة الكردية في سورية


حسام ميرو

ثمة مَيل واضح عند طيف واسع من المعارضة السورية إلى اختزال القضية الكردية بقضايا حقوقية أو ثقافية، نازعين عنها صفتها القومية؛ ومن ثمّ إخراجها من سياق الحق القومي إلى سياق المسألة الوطنية. والفرق بين السياقين كبير جدًا، وهو ليس اختلافًا في الدرجة، بل في النوع، وهو الأمر الذي أثار -ولا يزال- مشكلة بين ذاك الطيف من المعارضة وبين طيف كردي واسع، ينظر إلى قضيته في إطار الحق القومي، وما يتضمنه من حق أصيل في تقرير المصير.

ولقد شهدنا، خلال الأعوام التالية للانتفاضة السورية، اتهامات متبادلة بين “المعارضة السورية”، وبين “القوى الكردية”، ولا سيّما حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني (pyd)، ففي الوقت الذي وجهت فيه “المعارضة” جملة من الاتهامات للطرف الكردي، وفي مقدمتها ميله إلى الانفصال، فإن الطرف الكردي رأى في نهج “المعارضة” تجاهه شكلًا من أشكال التعصب الشوفيني، وسلوكًا لا يختلف عن سلوك “حزب البعث”، في تعامله التاريخي مع الكرد.

وبعيدًا عما تحمله تلك الاتهامات المتبادلة من مواقف متشنجة، يبدو من الواضح أن الطرفين لم يتمكّنا من بناء سياق عملي لتنمية الثقة فيما بينهما، خصوصًا أن كلًّا منهما ينطلق في فهمه للوقائع من أرضية مصلحية مختلفة عن الآخر، وفي جعبة كلا الطرفين تصورات جاهزة حول ما يمكن أن تؤول إليه المسالك السياسية للآخر، فالمعارضة السورية ناورت خلال المؤتمرات التي جمعت الطرفين حول قضية الأكراد، وأرادت أن تذيب الحقوق القومية في إطار مفهوم “المواطنة”، خصوصًا أن جزءًا من طيف المعارضة السوري ينتمي تاريخيًا إلى العروبة والإسلام، ونقصد هنا الناصريين والقوميين العرب والإخوان المسلمين، والمحكومين بخيال تاريخي لا يمتلك في حمولته الأيديولوجية إمكانات التعاطي مع شؤون سياسية حديثة، من مثل حق تقرير القوميات لمصيرها.

أما الطيف الكردي، وممثله الأقوى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، فهو على الرغم من عدم تصريحه الواضح بالانفصال، وبتأكيده الدائم على أن حل قضية الأكراد سيكون في إطار الدولة السورية، إلا أنه خطا واقعيًا نحو بلورة كيانه الخاص، عبر الفدرالية من طرف واحد، منطلقًا من معطيات عدة، من أبرزها تحولات الواقع الميداني؛ حيث بات تنظيم “داعش” الإرهابي موجودًا في الرقة ودير الزور، وهو ما جعل “قوات حماية الشعب” في مواجهته، في الوقت الذي امتلأت فيه الساحة السورية بفصائل إسلامية راديكالية، بعضها مصنف في قائمة الإرهاب، وبعضها الآخر ينتمي إلى السلفية الجهادية، مع تراجع وجود “الجيش الحر” إلى درجة الغياب عن الفعل المؤثر في مجريات الواقع الميداني.
وحتى قبل أن تتشعب الخارطة العسكرية في سورية، فإن الخيارات السياسية لطَيفٍ من المعارضة السورية أفرزت بعض المخاوف لدى أطراف كردية عدة؛ فقد تشكل “المجلس الوطني السوري” في 2 أكتوبر/ تشرين الأول في إسطنبول، وقد شكّل الإخوان المسلمون قاعدته الصلبة، مع قوى وشخصيات علمانية لا تمتلك امتدادات جماهيرية، وهناك دعمٌ واضح من الحكومة التركية للتيار الإخواني، وهو الأمر الذي وجه رسالة إلى بعض القوى الكردية مفادها أن “المجلس الوطني” لن يستطيع أن يقدم للأكراد أيّ مكتسب يتناقض مع المصالح التركية الاستراتيجية، خصوصًا مع تعقيدات العلاقة التاريخية بين “حزب العمال الكردستاني” وبين الحكومة التركية، وقد شهدت فصولًا دامية، في محطات متفرقة، ووجود زعيم الحزب عبد الله أوجلان في سجن إمرالي التركي .

وإذا كان التعقيد الأول والأساس في القضية الكردية يعود إلى أوائل القرن العشرين، حيث عاد الأتراك في اتفاقية لوزان عام 1923 عن قبولهم حقّ الأكراد في دولتهم الخاصة، وهو ما كانوا قد قبلوا به في اتفاقية سيفر في عام 1920، فإن جملة من التعقيدات التي لا تقلّ أهمية حدثت خلال القرن العشرين، ومن أهمها ما عرف باسم “المحرومون من الجنسية”، وهم الأكراد السوريون الذين حُرموا حق الحصول على الجنسية،  وما ترتّب عن هذا الحرمان من مشكلات اجتماعية عديدة، يضاف إليها مشكلات التنمية، وحرمان المناطق ذات الأغلبية الكردية، خلال حكم البعث، من تطوير البنى الصناعية والتعليمية والصحية، على الرغم من وجود أهم خيرات سورية في منطقة الجزيرة (النفط، الماء، القمح، الغاز)، وعدم الاعتراف بالحقوق الثقافية الخاصة للمكون الكردي.

إن مفهوم المواطنة” الذي طرحه طيف المعارضة السورية حلًّا لمشكلة القوميات في سورية، بدا لقوى كردية، وخصوصًا “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني”، شكلًا التفافيًا على الاعتراف بحقوق قومية مستقلة للمكون الكردي، وفي أحسن الأحوال بدا اعترافًا تمليه ضرورات عملية لا تنمّ عن قناعات سياسية أصيلة، ففي مثل الحدث السوري الذي تحوّل إلى رهان على القوة يكون المنتصر عسكريًا هو من يستطيع أن يملي شروطه في نهاية المطاف، وليس ما تحمله الوثائق من توافقات ظرفية، وهو الأمر الذي ينطبق على معظم مجريات التاريخ القديم والمعاصر.

لكن تعقيدات المسألة الكردية لا تنبع من التاريخ السوري المعاصر فحسب، أو من تناقضات مصالح “المعارضة السورية” مع “القوى الكردية”، وإنما من تعقيدات إقليمية ودولية، ومن ممكنات ومشكلات التطور الاجتماعي والسياسي في المجتمع الكردي، ومن الصراعات البينية بين الأحزاب والقوى الكردية، ومن تحالفاتها الخارجية، خصوصًا مع تشكيل إقليم كردستان وقيادته مركزًا لكثيرٍ من التناقضات، فمصالح الإقليم السياسية وما تمليه عليه من تحالفات مع تركيا، تجعل الأكراد السوريين يخسرون حليفًا افتراضيًا مهمًا.

ستبقى تعقيدات القضية الكردية قائمة، بل محط استثمار ونزاع إقليمي، ولن يكفي الدعم الأميركي المقدم لـ “قوات سورية الديمقراطية” التي يشكّل الأكراد عصبَها الرئيس، لبلورة كيان يتمتع بالاستقرار، أو بالاستقلالية في القرار، فلا مناخ مؤاتيًا لمثل هذا الاستقرار أو الاستقلالية، في منطقة فُتحت على التدخلات الدولية، والحروب بالوكالة.




المصدر