واشنطن بوست: بعد 80 عامًا، لا تزال جرائم الحرب النازية في غيرنيكا مهمة


أحمد عيشة

طظهرت الطائرة النازية فوق غيرنيكا، في وقتٍ متأخر من بعد ظهر يوم 26 نيسان/ أبريل 1937، وكان يوم السوق (البازار) في مدينة الباسك التاريخية، حيث يتجمع المئات من السكان في الساحة المركزية. لم يتمكن هؤلاء من تخيّل ما هو على وشك أن يحدث؛ على مدى الساعات الثلاث المقبلة، أسقطت الطائرات 100 ألف رطل (ما يعادل 50 طنًا) من القنابل الحارقة شديدة الانفجار؛ ما حوَّل غيرنيكا إلى خرابٍ خالص.

كانت هذه إحدى الجرائم الأولى ضد الإنسانية التي تستحوذ على الخيال العالمي، وتعدّ الفظائع التي ارتكبتها القوات الجوية الألمانية بالتحالف مع الجنرال الفاشي الإسباني فرانسيسكو فرانكو، أولَّ هجومٍ متعمد على هدفٍ مدني من الجو -قبل سنوات من كوفنتري، ودرسدن، وهيروشيما، وقبل عقودٍ من حلب- ولم تكن غيرنيكا تحتوي على أيّ شيءٍ ذي قيمة عسكرية حقيقية. كانت -ولا تزال- مركزًا ثقافيًا في الباسك، وموطنًا لشجرةٍ مقدسة ترمز إلى الحريات التقليدية لشعب الباسك، وما كان فرانكو ليهتم بهذه المزايا، وبالدفاع عنها.

حتى يومنا هذا، تُعدّ مشاهد المعاناة الكارثية المسجلة في غيرنيكا علامةً سوداء في التاريخ الإسباني.

صرَّحت نويل مونكس (1960-1907)، من صحيفة ديلي إكسبرس لندن: “كنتُ أولَّ مراسلةٍ تصل إلى غيرنيكا، وانخرطت على الفور بالخدمة مع بعض جنود الباسك الذين كانوا يجمعون الجثث المتفحمة، كان بعض الجنود يبتسمون مثل الأطفال، وكانت هناك نيرانٌ، ودخان، وحصى، وكانت رائحة حرق اللحم البشري تسبب الغثيان، وكانت المنازل تنهار في الجحيم.”

وأفادت صحيفة مانشستر غارديان أنَّ “الحرائق كانت واسعةً إلى درجة أنَّ العديد من الجثث لن تُستعاد أبدًا”. وأفادت التقديرات أنَّ عدد القتلى بلغ نحو 1600 شخص، على الرغم من أنَّ الدراسات اللاحقة قد نقصّت العدد تنقيصًا ملحوظًا.

تعرضت المباني في قرية غيرنيكا الباسكية القديمة للتدمير الكامل، في إثر هجوم جوي غير مبرر من قبل القوى الجوية الألمانية (لوفتواف) في 27 نيسان/ أبريل 1937. (أسوشيتد برس)

وقال جورج ستير (1909-1944) في صحيفة “تايمز أوف لندن”، بعد يومين من التفجير: “إنَّ الغارة على غيرنيكا لا مثيلَ لها في التاريخ العسكري. لم تكن غيرنيكا هدفًا عسكريًا، فالمصنع الذي ينتج موادًا حربية يقع خارج البلدة، ولم يُمَس، وكان الهدف من القصف، على ما يبدو، إضعاف معنويات السكان المدنيين، وتدمير مهد الباسكيين”.

في الواقع، كما عُرف في وقتٍ لاحق، كان تفجير غيرنيكا جزءًا من تجربة لإدارة آلة الحرب النازية. وقد قامت كوندور ليجيون، وهي وحدةٌ من القوات الجوية الألمانية (لوتوفواف)، أُنشئت للقتال جنبًا إلى جنب مع القوميين الفرانكونيين، بالهجوم، بالتنسيق مع قوات فرانكو، وبدعمٍ من القوات الجوية الإيطالية الفاشية. ووفقًا لما ذكره أحد المؤرخين، “كان من المقرّر تدمير غيرنيكا كهديةِ عيد ميلادٍ متأخرة من هيرمان غورينغ (قائد قوات الطيران النازية) إلى أدولف هتلر، وتم تنظيمها مثل دائرة نارٍ فاغنرية (نسبة إلى الموسيقي فاغنر)”

وقال وولفرام فون ريتشوفن، قائد وحدة كوندور ليجيون، في مذكراته: “غيرنيكا بلدة تضم 5000 نسمة، سُوّيت بالأرض بمعنى الكلمة، ويمكن رؤية حفر القنابل في الشوارع ببساطةٍ رائعة”. تقشعر الأبدان، وتُصعَق لمثل هذه المشاعر، ولكنها ليست بقايا من الماضي. حتى في هذه الأيام، يتبجح السياسيون الأميركيون بقرفٍ مثير للانزعاج، بشأن احتمال قصف بساطي (وهو عملية قصف ساحقة، بأسلحة تدميرية، لتدمير البشر والحجر، وزرع الرعب في النفوس) في أجزاءٍ أخرى من العالم.

إذا كان صدى محنة غرنيكا لا يزال يتردد بقوةٍ في الوقت الحاضر، فإن الفضل في ذلك يعود، إلى حدٍّ كبير، إلى جهود الفنان الإسباني بابلو بيكاسو الذي أظهر لأول مرةٍ جداريته الشهيرة عن المذبحة، في معرض الفنون الدولي، في باريس في تموز/ يوليو 1937.

“يوم قيامة تكعيبي”، كما قدمها الناقد البريطاني جوناثان جونز مؤخرًا، تلقت اللوحة تفاعلاتٍ مختلطة من جمهور بيكاسو الأولي. ولكن من جميع الأعمال في المعرض -التي تمت رعايتها ببذخ، كنوعٍ من الدعاية، من قبل الحكومات بما في ذلك ألمانيا– إنها لوحة بيكاسو الشاحبة، بأشكال رهيبة/ الغروتسكية، مكسورةً وعوملت بخشونة، ذاك ما يذكر حتى يومنا هذا.

وقال جونز: “كان بيكاسو يعرف، تمامًا، ما يفعله عندما رسم غيرنيكا، كان يحاول إظهار الحقيقة بشكلٍ مفرط، ودائم بحيث يمكنه أن يفضح الأكاذيب اليومية لعصر الديكتاتوريين.”

ونفى كل من القوميين الفرانكونيين، والنازيين في البداية أيّ مسؤولية عن الهجوم، ووجهوا لومهم بدلًا من ذلك إلى القوات الجمهورية المتراجعة. استعاد المراقبون في العام الماضي صورة القسوة وصدمة صمت الجماعة الدولية، عندما يشاهدون نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وحلفائه الروس، يقصفون المناطق التي يسيطر عليها المتمردون في حلب بلا هوادة.

وقال السياسي البريطاني أندرو ميتشيل أمام البرلمان في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي: “عندما يتعلق الأمر بالأسلحة، والذخائر الحارقة، مثل القنابل العنقودية، فإنَّ الأمم المتحدة توضح أنّ الاستخدام المنهجي لهذه الأسلحة العشوائية في المناطق المكتظة بالسكان يُعدّ جريمة حرب، نشهد أحداثًا تتطابق مع سلوك النظام النازي في غيرنيكا في إسبانيا”.

قام رسام كاريكاتيرٍ برتغالي بتحديث عمل بيكاسو، لإظهار وجه الأسد، ووجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين:

أُخرجَ معظم المتمردين من حلب -وكذلك مئات الآلاف من السكان- وسوف يستغرق الأمر وقتًا طويلًا إلى أن تعود المدينة المدّمرة، كاملة مرة أخرى.

استغرق الأمر أيضًا بعض الوقت لغيرنيكا. قامت ديكتاتورية فرانكو بقمع حقوق الباسك حتى وفاته في 1975. لم تعد جدارية بيكاسو، بعد حياةٍ متهورة في جميع أنحاء العالم، في طريقها إلى الوطن إلا في عام 1981. وبعد ثمانية عقود لا تزال إسبانيا تتصدى لكيفية حساب ماضيها الدموي المنقسم.

في غيرنيكا، يوجد الآن متحف سلامٍ مخصص، فضلًا عن “حديقة سلام” خضراء في سفوح التلال المحيطة بالمدينة.

وهناك ناجون.

في وقتٍ سابق من هذا العام، تحدث إلى الغارديان عن معاناته، لويس أريوندو أورتينيتكسيا، الذي كان في الرابعة عشر من عمره وقت القصف والتدمير، ورأى غرنيكا تحترق متحولةً إلى رمادٍ من حوله.

وقال: “نحن الناجون سنختفي، نريد أن يستمر الناس برسالتنا، نريد أن يكون لكلِّ بلديةٍ لجنة سلام تتحدث مع حكوماتهم”. “عندما جاء السفير الألماني إلى هنا للاعتذار في 1997، طلب مني التحدث عن المدينة، فقلت له: “يجب أن يُرفع علم سلامٍ من بين أنقاض ما كانت عليه مدينتنا ذات يوم. ولا ينبغي أن يحدث هذا مرة أخرى”.

اسم المقالة الأصلي80 years later, the Nazi war crime at Guernica still matters
الكاتبإسهان ثأرور، Ishaan Tharoor
مكان النشر وتاريخهواشنطن بوست، The Washington Post، 26/4
رابط المقالةhttps://www.washingtonpost.com/news/worldviews/wp/2017/04/26/80-years-later-the-nazi-war-crime-at-guernica-still-matters/?utm_term=.9c63b91d4eb8
ترجمةأحمد عيشة



المصدر