الرواية والموسيقا


بدر الدين عرودكي

لم يكن الشاعر والناقد الفرنسي ستيفان مالارميه (1842- 1898) يتحدث عن الرواية حين كتب: “كل مرة يوجد جهد مبذول من أجل الأسلوب، يوجد شعر منظوم”. لكن قراءة كبار روائيي أوربا في القرن التاسع عشر، كبلزاك (1799- 1850) وفلوبير (1821- 1880) وستندال (1783- 1842)، أو في القرن العشرين، كمارسيل بروست (1871- 1922) وأندريه جيد (1869- 1951) وفرانز كافكا (1883- 1924)، على سبيل المثال لا الحصر، تكشف عن قيام مؤلفيها بتطبيق متقن لهذه العبارة. فقد كان ستندال يجهد كي يبلغ بأسلوبه، مستوى صوغ القانون المدني الذي يجتهد القضاة في تفسير مواده وفي دراسة مدلولاتها، من أجل الوصول إلى منح قرائه أكبر قدر من الحرية، في فهم رواياته أو في تأويلها. في حين ذهب جهد فلوبير لإنجاز ما يمكن أن يطلق عليه كمال الأسلوب، في إيقاع الجملة وموسيقاها وكلماتها المختارة باقتصاد شديد في العدد، وغنى بلا حدود في المعاني؛ حتى إنه كان يقرأ ما يكتبه بصوت عال، فيما عرف لديه بـ “غرفة الـ صراخgueuloir ” كي يحكم على إيقاع جُمَلِهِ وموسيقاها، مُشذِّبًا هنا ومُعَدِّلًا هناك، إلى أن يبلغ ما يرمي إليه.

لكن الأسلوب، على أهميته القصوى، لم يكن العنصر الوحيد الممكن للمقارنة بين الرواية والموسيقا. ذلك أن عناصر القرابة بين هذين العالميْن عديدة ومتباينة. ويكاد فن العمارة الدقيق يؤلف القاسم المشترك الأعظم بينهما، لا في اعتماده الرياضيات أساسًا فحسب، بل في فيض الدلالات التي يقدمها العمل المنجز في كل من هذه الميادين: الموسيقا والعمارة والرواية. فأيُّ تحليلٍ بنيوي، على سبيل المثال، لواحد من مُبدَعات بيتهوفن (1770- 1827) أو موزارت (1756- 1791) الموسيقية، سوناتا أو سمفونية أو كونشرتو، شأن ذلك الذي يقوم به أساتذة الموسيقى أمام تلامذتهم، أو قائد الأوركسترا أمام عازفيه، لبيان تناغمّ عناصر المبدع المتباينة، ودور كلٍّ منها في أداء وظيفته التي تتكامل مع وظائف العناصر الأخرى المختلفة، يتيح، عن طريق المقارنة، إدراك التماثل في العلاقات القائمة بين مختلف العناصر التي نجدها في الرواية التي كتبها معاصرو بيتهوفن أو من جاؤوا بعده، أو في تلك التي نعثر عليها في تقويم أي مُبدع معماري.

سوى أن للعلاقة بين الموسيقى والرواية -كما يبدو- وضعًا متميزًا لدى عدد من الروائيين الذين ربطتهم بالموسيقا صلاتٌ شديدة الخصوصية. صلات تتمثل بالدرجة الأولى في اهتمام الروائي الشديد، بل والصارم أحيانًا، بالأسلوب؛ لكنه، حين لا يقتصر عليه، يتجاوزه ليبني إلى جانبها، أو معها، أو بوحي منها، أو باعتماد معمارها، روايته. ذلك كان على سبيل المثال، شأن أندريه جيد، ومارسيل بروست، وميلان كونديرا.

لم يكن أندريه جيد يستطيع مباشرةَ الكتابة يوميًا، قبل أن ينصرف إلى العزف على البيانو ساعة أو ساعتين. تحرِّضُه الموسيقى على الكتابة أو تدفعه إليها. ولعل هذا هو سبب تجليها، عالمًا ونهجًا وأداءً، في سبْك الجُمَل وتعيين الإيقاعات في رواياته على اختلافها. لم يكن جيد يلجًا -كما كان يفعل فلوبير من قبله- إلى “غرفة الصراخ”. لكن التسجيلات السمعية البصرية التي تسمح اليوم برؤيته وبسماعه، وهو يقرأ بعضًا من نصوصه، تتيح سماع صوت، يكاد يعزف الكلمات في لفظهِ لها واحدة وراء أخرى، كما لو كانت علامات موسيقية يؤديها وفق السرعة والطبقة الصوتية المطلوبة: سريعة جدًا، سريعة أو قوية، رقيقة أو شديدة الرقة…إلخ.

لا يختلف مارسيل بروست عن أندريه جيد في حبه للموسيقى الذي سيطبع، إلى جانب ولعه وإعجابه باللغة الفرنسية وثرائها وموسيقاها، مُبْدَعه الفريد: البحث عن الزمن المفقود. لا شك أنها تتواجد، معمارًا ومنهجًا، في كل سطر من سطور روايته. يتجلى ذلك الاهتمام القلق بكل كلمة، وبإيقاع كل جملة، في مخطوطات الرواية المتاحة اليوم، وهي تكشف عن بعض طرق العمل اليومي لدى بروست روائيًا. كان بروست مولعًا بموسيقى فاغنر وبيتهوفن وشوبان وديبوسي وسيزار فرانك، وكذلك كميل سان سانس. ومن سوناتا هذا الأخير للكمان والبيانو، إنما استوحى من حب لسوان (التي تؤلف القسم الثاني من الجزء الافتتاحي لرواية البحث عن الزمن المفقود: من جانب منازل سوان) السوناتا والسباعية التخييليتين اللتين ألفهما فانتوي، وهو شخصية مؤلف موسيقي تخييلية أيضًا. سيلعب سماع السوناتا مرات عدة من قبل بطل الرواية شارل سوان، وبصورة خاصة الجملة الموسيقية القصيرة فيها التي جعلته يقع في غرام أوديت، دورَ الكاشف للقارئ عن تطور علاقته الحميمة مع الموسيقا، وعن التغيرات المتوالية التي جعلته يحمل هذا الحب إلى ما وراء الواقع والزمان.

لا تتواجد الموسيقا بصورة محسوسة وصريحة كشخصية من شخصيات الرواية، إن جاز القول فحسب؛ بل تجعل من الرواية ذاتها، بفعل إيقاعاتها ومعمارها، مُبْدَعًا موسيقيًا يقترب من أن يؤلف سمفونية هائلة كتبت بالكلمات. ألم تكن الموسيقى هي التي عبَّدَت الطريق أمام بروست في مراحل مختلفة من حياته، طفلًا فصبيًا فراشدًا، كي يصل إلى اكتشاف أن المرء، بفضل الفن، يستطيع أن ينتزع نفسه من عدم الزمان المفقود؟

وشأن كبار روائيي القرن التاسع عشر والقرن العشرين، لا يشذ ميلان كونديرا، الموسيقي ابن الموسيقي، في عنايته الصارمة بالأسلوب لغة، وإيقاعًا، ودلالات. لكنه، وبطريقة تتماثل مع وتختلف في الوقت نفسه عن طريقة بروست، يسلك في الكتابة الروائية سبل الكتابة الموسيقية نفسها ولا سيّما على صعيد المعمار، سواء من خلال عناصر الزمن، أو من خلال الشكل البوليفوني أو متعدد الأصوات. فهو كبروست، يُدْخِلُ الموسيقا في رواياته عبر تحليلات أو تأملات بعض شخصياته أو، أحيانًا، تأملاته الشخصية هو نفسه كمؤلف، أو من خلال استخدام مُبدَعٍ موسيقي ما، كاستخدامه كلازمة، رباعية بيتهوفن التي تعبر في روايته، خفة الكائن الهشة، حياة إحدى شخوص الرواية، تيريزا، في تأملات شخصية أخرى، توماس. لكنه يختلف عن بروست، حين يلجأ إلى عناصر المعمار الموسيقي، كي يجعل منها عناصر معماره الروائي. والحقيقة أنه يشير إلى ذلك صراحة في “محادثة حول فن التأليف” حين ذكر كيف أن رواياته كلها، باستثناء واحدة منها، تتألف من سبعة أجزاء:

“أريد أن يكون تقسيم الرواية إلى أجزاء، والأجزاء إلى فصول، والفصول إلى مقاطع، أي بعبارة أخرى: أريد أن يكون تمفصل الرواية شديد الوضوح. كلّ واحدٍ من الأجزاء السبعة هو كلٌّ في حدِّ ذاته. كلُّ واحدٍ منها يتسم بطريقته في القصّ: مثلًا رواية الحياة في مكان آخر:

الجزء الأول: قصٌّ “مستمرّ” (أي بوجود رابطة سببية بين الفصول)؛ الجزء الثاني: قصٌّ حلمي؛ الجزء الثالث: قصٌّ متقطع (أي، دون وجود رابطة سببية بين الفصول)؛ الجزء الرابع: قصٌّ بوليفوني؛ الجزء الخامس: قصٌّ مستمر؛ الجزء السادس: قصٌّ مستمر؛ الجزء السابع: قصٌّ بوليفوني. لكل جزء منظوره الخاص (أي أنه محكيٌّ من وجهة نظر أنا خيالي آخر). ولكل جزء طوله الخاص: إن نظام الأطوال في المزحة هو على هذا النحو: قصير جدًا؛ قصير جدًا؛ طويل؛ قصير؛ طويل؛ قصير؛ طويل. أما في الحياة هي في مكان آخر فالنظام معكوس: طويل؛ قصير؛ طويل؛ قصير؛ طويل؛ قصير جدًا؛ قصير جدًا. أما الفصول فإنني أريد أن يكون كلٌّ منها كلًا صغيرًا في حد ذاته. لهذا ألحّ على ناشريّ أن يوضحوا الأرقام وأن يفصلوا الفصول بعضها عن البعض الآخر بكثير من الوضوح. (إنّ الحل المثالي هو الحلّ الذي اتبعته دار جاليمار الفرنسية: كلّ فصل يبدأ على صفحة جديدة). اسمح لي أن أقارن مرة أخرى الرواية بالموسيقى. إنّ الجزء هو حركة. أما الفصول فهي وحدات القياس. ووحدات القياس هذه هي إما قصيرة أو طويلة أو ذات ديمومة غير منتظمة. الأمر الذي يقودنا إلى مسألة الإيقاع. إن كل جزء من رواياتي يمكن أن يحمل إشارة موسيقية تدلّ على إيقاعه: موديراتو، برستو، آداجيو، إلخ.”

أما بالنسبة إلى الإيقاع، فهو يتحدد بالعلاقة بين طول جزء ما وعدد الفصول التي يحتويها، تمامًا كإيقاع موسيقي. يلاحظ كونديرا:

“في رواية الحياة هي في مكان آخر: الجزء الأول: 11 فصلًا من 17 صفحة، موديراتو؛ الجزء الثاني: 14 فصلًا من 13 صفحة؛ ألليغريتو الجزء الثالث: 28 فصلًا من 82 صفحة، ألليجرو؛ الجزء الرابع: 25 فصلًا من 30 صفحة، بريستيسيمو؛ الجزء الخامس: 11 فصلًا من 96 صفحة، موديراتو؛ الجزء السادس: 17 فصلًا من 26 صفحة، آداجيو؛ الجزء السابع: 23 فصلًا من 23 صفحة، بريستو.”

لم يكن تقسيم الرواية إلى سبعة أجزاء قصديًا. ولا حسابًا عقلانيًا، بل كما يقول كونديرا: كان “أمرًا عميقًا، لا واعيًا وغير مفهوم”. أما مسألة الحركات، والديمومة، والإيقاع، فمن الواضح أنها كانت قصدية وواعية.

هو ذا ما يمكن أن يحيل إلى موضوع الرواية والشعر.




المصدر