علام من كردستان… نافذة على إسهام الأكراد في الحضارة الإسلامية
29 أبريل، 2017
محمد حبش
لا أريد في هذه المقالة أن أقدم تاريخًا للأكراد، ولكن هذه القراءة تأتي في سياق الرد على نكران مزدوج، بات سِمَةً في الخطاب الانفعالي، في جدل العرب والأكراد المستمر من سنين، وتعاظم تعاظمًا مخيفًا في غمار الأشهر الأخيرة؛ إذ يُطلق سياسيون وناقدون سوريون اتهامات عنصرية وفاشية ضد الأكراد، ويشككون في وجودهم وإسهامهم الحضاري، في حين يقوم ناقدون وسياسيون أكراد بالرد على ذلك بالتنصل من أي علاقة للأكراد بالتاريخ العربي أو الإسلامي، ومحاولة تقديم الأكراد كما لو كانوا أشباحًا مدهشين من الأطلانتس الغامض، ومحاولة إظهار الشعب الكردي مسكونًا بالمجد الميدي والآهات الزرداشتية التاريخية، يعيش في المنطقة، في كل أعاصيرها ولهيبها، من دون أن يتصل حضاريًا أو فكريًا أو معرفيًا بشيء من هذا الطوفان الهادر فيها.
ومن المؤكد أن الكردي الذي تمسك بأرضه ووطنه وترابه في الجزيرة عانى قدرًا كبيرًا من التجهيل والتجاهل، وبات في المجتمع السوري صورةً بائسة للكادح المتعب، وامتنع البعث القومي عن الاعتراف بجنسية عشرات الآلاف من الأكراد؛ الأمر الذي حرمهم من التعليم، وتعاملت البُرجوازية الشامية والحلبية مع الأكراد على أنهم يد عاملة رخيصة، ما لها من حقوق ولا أُفق، وكرّست عمل شبابهم نواطير في المزارع و”كراسين” في المطاعم، في مشهد يناقض تمامًا دورَهم التاريخي والمعرفي.
فهل الأكراد مجتمع منكفئ لا أرب له في العلم، كما تقول الأسطورة البرجوازية في الشام وحلب؟ وهل كان الأكراد بالفعل وجودًا معقدًا منفصلًا عن محيطه التاريخي؟ وهل هذه الصورة التي يرسمها الانفعال المتبادل من القطيعة والعزلة والجهل هي صورة هذا الشعب الكردي المكافح النبيل؟
ومع أنني أملك الجواب من عشرات المدائن الكردية التاريخية، ولكنني سأكتفي بقرية واحدة.
جزيرة “ابن عمر” واحدة من حواضر الأكراد التاريخية، وهي تقع على الحدود السورية العراقية التركية، وهي اليوم في أراضي تركيا، ولا ينكر أحدٌ أنها كردية حتى العظم، ومع أنها ليست جزيرة ومحاطة بالماء من أطراف ثلاثة، حيث يلتف حولها نهر دجلة حتى يجعل منها شبه جزيرة، ولأجل ذلك سميت جزيرة ابن عمر، وقد أشار الواقدي أنها سُمِّيت جزيرة ابن عمر نسبة إلى عبد العزيز بن عمر من سادات الموصل، وقام ببناء هذه البلدة في العصر الأموي. أما رجالها الكبار فقد عددنا منهم هنا خمسة رجال سموا باسم ابن الجزري، ورصدت إسهامهم في العصر الذهبي للحضارة الاسلامية، ولم أشأ أن أضم إليهم النابغين المعاصرين الذين جاؤوا أيضًا من هذه القرية.
أول الجزريين الأكراد هو المخترع الشهير ابن الجزري (1136 – 1206)
عاش بديع الزمان إسماعيل بن الرزاز ابن الجزري في جزيرة ابن عمر، في كنف الدولة الأرتقية في القرن العاشر الميلادي، وقد نجح ابن الجزري في أن يُقدّم سلسلة من الاختراعات الفريدة للتاريخ البشري، ظلت شاهدة على تفوق هذه المنطقة علميًا وحضاريًا ومعرفيًا.
عمل ابن الجزري كبيرًا للمهندسين في ديار بكر في الدولة الأرتقية، وخلال خمسة وعشرين عامًا من الخدمة، قدم سلسلة اختراعات عجيبة في الهندسة الميكانيكية وخاصة في حقل الري؛ فاخترع آلات رفع الماء وساعات مائية وصمامات تحويل وأجهزة متعددة للتحكم الذاتي، وقد جمع اختراعاته في كتاب بعنوان الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل.
ويمكن إجمال الأعمال الميكانيكية التي أنجزها ابن الجزري في المضخات الأسطوانية ونواعير رفع الماء على نمط مدينة حماه، وقد أشار بوضوح إلى الطاقة الكامنة في الأنهار وإمكانية تحولها إلى طاقة مخزنة، وصنع مضخة الزنجير والدلاء لتخزين طاقة سقوط الماء على المغارف وتحويلها إلى طاقة جديدة، وأبدع في صناعة الساعات المدهشة التي أخذت اسمها من الشكل الخاص الذي تظهر فيه وفق تصميمه: ساعة القرد، وساعة الفيل، وساعة الرامي البارع، وساعة الكاتب، وساعة الطبال، وتعدّ ساعة الفيل الضخمة أهم اختراعاته، وصارت هدية الملوك والخلفاء التي تعبر عن تفوق الحضارة الإسلامية.
كان لتصانيف الجزري أثر كبير جدًا في الغرب، وقد تعاقب عدد من المستشرقين على دراسة أعمال الجزري ومنهم (لين وايت) و(دونالد هيل) و(الدو ميللي)، وقد اعتبر وايت أن التروس القطعية التي أنجزها الجزري لم تظهر في الحضارة الأوروبية إلا بعد قرنين من الزمان عندما ظهرت أول مرة في ساعة (جيوفاني جونجي) الفلكية.
تعدّ تجارب الجزري أول تجارب العلم التطبيقي للتحول من الطاقة الحيوانية في السقاية والنضح إلى الطاقة المائية الذاتية التي يمكن أن توفرها الأنهار، وهو ما بات عماد صناعة الكهرباء منذ اكتشافها إلى اليوم.
يُعرض كتاب الجزري اليوم في متحف اللوفر ومتاحف علمية كثيرة في العالم، وقد ترجمه إلى الألمانية (فيدمان) كما ترجمه إلى الإنكليزية (دونالد هيل).
ويمكن أن يعدّ الجزري ثورة حقيقية في علم الميكانيك على المستوى العالمي، ولا تزال الدراسات الغربية تشير إلى الدور المحوري الذي أنجزه الجزري، وخاصة في مجال تخزين الطاقة وتوظيفها.
وضع الجزري علمه في خدمة الدولة الأرتقية، وكان الخليفة الناصر آنذاك أكثر الخلفاء اعتمادًا على الحيل التكنولوجية ولا سيّما في الاتصالات، ولا شك أنه أفاد منها فائدة عظيمة.
من أشهر علماء الأكراد في جزيرة ابن عمر، الثلاثة الجزريون الإخوة، وهم أبو السعادات وأبو الحسن وضياء الدين.
هؤلاء الثلاثة يُشكّلون، في التاريخ الإسلامي، قاعدة متينة لمجموعة من العلوم الشهيرة، وقد عُرفوا جميعًا باسم واحد هو ابن الأثير الجزري، كما عُرفوا بمشاركتهم الفعالة مع أبناء صلاح الدين الأيوبي في حكم الشام ومصر.
أولهم أبو السعادات مجد الدين المبارك بن محمد (544-606) إمام العالم الإسلامي كله في علم الحديث، وقد أنجز كتابه التاريخي “جامع الأصول في علم الأصول” الذي عدّه الجميع مرجعًا نهائيًا للسنة النبوية، ولا زال الناس إلى اليوم عالةً على جامع الأصول لابن الأثير، وقد نجح تمامًا في تمييز الأصيل من الدخيل في السنن، ولا وجود لصحيح خارج كتاب جامع الأصول، وهي حقيقة لا ينازع فيها أحدٌ من أهل السنن.
كما أنه صاحب كتاب “النهاية في غريب الحديث والأثر” وهو مرجع المحدثين جميعًا في علم غريب الحديث.
وأما ثاني الإخوة الجزريين فهو أبو الحسن عز الدين علي بن محمد (555-630) وكان في الواقع من زعماء الأكراد وعلمائهم، وقد صحب صلاحَ الدين في فتحه بيت المقدس، وبنى أوثق الصلات مع القادة السياسيين والدينيين في عصره، وظهر علمه الكبير في كتابه الكبير “الكامل في التاريخ” الذي يعدّ بحق أوسع كتاب في التاريخ الإسلامي، وقد أرخ فيه إلى نهاية عصره، ويعدّ كتاب ابن الأثير مرجع الكافة في علم التاريخ بلا منازع.
ومن كتبه الشهيرة في العالم الإسلامي أيضًا كتابه “أسد الغابة في معرفة الصحابة”، وهو أهم كتب التراجم للصحابة الكرام، ويعدّ مرجع الكافة في علم الرجال، في المرحلة الأولى للتاريخ الإسلامي.
وأما ثالث الجزريين الإخوة فهو ضياء الدين نصر الله بن محمد (558-637) فقد كان شاعرًا مجيدًا، وكان أكثرهم مشاركة في النشاط العام، وكان وزيرًا من وزراء الأيوبيين، ارتحل إلى دمشق وصار بمنزلة وزير مفوض في دولة الملك الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي.
عاد ابن الاثير الثالث إلى جزيرة ابن عمر بعد انتهاء حكم الأفضل، وأكمل حياته متنقلًا بين الموصل وجزيرة ابن عمر، وكتب مجموعة كتب هامة، بعضها لم يصل إلينا، ومنها مختارات في الحديث، وفي الشعر والأمثال. وينسب إليه كتاب “تحفة العجائب وطرفة الغرائب” وهو مجموعة من منظوم العرب ومنثورهم في عناصر الكون والطبيعة من سماء ونجوم وماء وشجر… وكتاب “عمود المعاني” وهو في معاني الشعر، وكتاب “الوشي المرقوم في حلِّ المنظوم”، وكتاب “الجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور”، وكتاب “البرهان في علم البيان”، ثم كتاب “رسائل ابن الأثير” ويضم ما دبجه من رسائل متأنقة العبارة موجهة إلى أعلام العصر وكبراء حكامه، وهي تكشف عن مشاركاته السياسية في تحولات عصره، وتقدم معلومات هامة عن القرن السابع الهجري، أما كتابه “المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر” فهو أشهر كتبه في النقد الأدبي، وبلغ به مصاف كبار النقاد العرب، وكان موضع ثناء الأقدمين ونقدهم، وقد عقب عليه ابن أبي الحديد في كتاب آخر اسمه “الفلك الدائر على المثل السائر”، ولصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي “نصرة الثائر على المثل السائر”، وكلاهما في نقد كتاب ابن الأثير.
لا بدّ أن نشير هنا إلى الشاعر الكردي الكبير ملا جزيري (975- 1044) هجرية الذي انطلق من جزيرة ابن عمر، ونال شهرة واسعة في الأناضول والعراق وبلاد الشام. وقد كتب الشعر على المذهب الكلاسيكي باللغة الكردية (الكوردمانجية)، وقد استطاع هذا الشاعر أن يُقدّم قراءته الشهيرة في الدمج بين الحب الإلهي والحب البشري، وكان منطلق الفكر الصوفي العميق الذي يرى في كل أفق تجلي جلاله، وفي كل روض تجلي جماله، وفي كل غيث تجلي نواله، وفي كل ليل تجلي وصاله، وفي كل خلق تجلي كماله.
لقد تمكن من الكتابة بروح الاتحاد، من دون أن يُلقي بنفسه في الأقفاص المذهبية الفقهية المضنية، وأثار قضايا إنسانية في معاناة الأكراد صارت نشيدًا وحداءً وتاريخًا لمعاناة هذا الشعب النبيل، وديوانه الشهير المسمى “ديوان جزري” يعكس الروح المتدفقة للشعب الكردي في قراءة لوحة الخير والحب والجمال.
هذه بعض ملامح الإسهام الكردي في الحضارة الإسلامية الكبيرة، وهي قراءة مجتزأة سريعة، لا تتجاوز لمحة عن بلدٍ واحدٍ من بلاد الأكراد التاريخية، وآثارهم فيها محفوظة مشهورة، لا ينكرها إلا حاقد.
ولم أشأ أن أذكر من المعاصرين الأكراد أبناء جزيرة ابن عمر وهم كثير.
ومع أنه لا شك في تكرر ظاهرة القرية العالمية التي يتكرر منها ظهور المبدعين، ولكن جزيرة ابن عمر كانت أشد فرادة وأغزر انتاجًا من أي بلدة أخرى بمثل حجمها.
يمكن بكل تأكيد تقديم نظائر للقرية المبدعة، ولكنني أحببت أن أُقدّم هذا السرد التاريخي في مقابل طوفان من النكران والجحود الذي قدمه في الأشهر الأخيرة سياسيون وصحفيون وناقدون سوريون في غمار الاتهامات المتبادلة لإنكار دور الشعب الكردي النبيل في صناعة الثقافة والتاريخ.
[sociallocker] [/sociallocker]