الحرب السورية والزراعة: حساب التكاليف


أحمد سعد الدين

(مراجعة لتقرير منظمة الأغذية والزراعية للأمم المتحدة – الفاو)

“حساب التكاليف: الزراعة في سورية بعد 6 سنوات من الأزمة”.

 

مقدمة

منذ استقلال سورية، والزارعة تلعب دورًا حيويًا في الاقتصاد السوري؛ حيث بقيت أكبر القطاعات الاقتصادية حتى التسعينيات حين انخفضت مساهمتها في الناتج الإجمالي المحلي للمرتبة الثانية بعد قطاع الخدمات. في 2001 كانت حصة الزراعة في الناتج الإجمالي قد انخفضت إلى 27 في المئة، وعلى الرغم من انخفاض هذه النسبة إلى 19 في المئة في 2011، إلا أن مساهمتها في الناتج المحلي بقيت أكبر من ضعف مساهمة قطاع التصنيع الذي بقي هشًّا معتمدًا على الصناعات التحويلية، وتابعًا في الوسائل التقنية لدورات إنتاج تقع خارج حدود البلاد. ما طبع التحول الهيكلي في الاقتصاد السوري بصفة الريعية التي تعتمد على تضخم قطاع الخدمات من دون نمو صناعي صلب. فانخفاض أهمية الزراعة لم يترافق مع نمو في القطاعات المشغلة لقوة العمل كالتصنيع والبناء؛ ما انعكس بصورة سلبيّة على معدلات البطالة (الظاهرة والمقنعة) خاصة في فترة بدأت فيها الدولة بالانسحاب من مسؤولياتها في موضوع التوظيف.

بعد 6 سنوات من الأزمة، بقيت الزراعة مصدرًا أساسًا للرزق لأغلبية سكان الأرياف، حيث تشير التقديرات أن حصتها في الناتج المحلي (الذي انخفض تقريبًا إلى النصف مقارنة بمستوى 2011) ارتفعت إلى 26 في المئة؛ ما يشير إلى أن الزراعة تمتعت بمرونة وقدرة على التأقلم فاقت باقي القطاعات الاقتصادية؛ فهي مازالت تشكل مصدرَ شبكة أمان حيوية لنحو 6,7 مليون سوري يعيشون في المناطق الريفية الآن، بمن فيهم الأسر المهجرة من أماكن أخرى من الداخل السوري.

أهمية التقرير

حين بدأت الثورة في 2011 كان نصف سكان سورية يعيش في الأرياف، بينما كانت الزراعة تُشغّل نحو ربع القوة العاملة النشطة. ومنذ ذلك التاريخ تعرضت الزراعة والبلاد عمومًا إلى حملة تدمير مُمَنهجة طالت كافة مناحي الحياة، وأحدثت دمارًا غير مسبوق على مستوى البني التحتية. وعلى الرغم من وجود تقارير عديدة حاولت تقدير حجم الكلفة إلا أنها بقيت محدودة من حيث تغطيتها الجغرافية، ومن هنا تأتي أهمية هذا التقرير، حيث إنه أول تقرير تصدره مؤسسة دولية متخصصة في الزراعة يكون شاملًا في تقدير كلفة الحرب، مغطّيًا التراب السوري كاملًا على مدار السنوات الست من الحرب (أي منذ 2011 وحتى نهاية 2016). ويهدف إلى تقدير تكاليف الحرب السورية في القطاع الزراعي وتحقيق فهم أفضل لطرق وسيناريوهات دفع عجلة النمو الاقتصادي في القطاع الزراعي خصوصًا والاقتصاد الوطني عمومًا، وذلك بهدف تأمين الدعم المناسب للقطاع الآن ومن أجل التخطيط في المستقبل.

 

منهجية التقرير

اعتمد التقرير على تحليل، أجراه مجموعة من الخبراء، في نهاية سنة 2016، وذلك بالاستناد إلى ثلاثة أدوات أساسية:

وقد استند تحليل البيانات إلى منهجية البنك الدولي في تقييم الاحتياجات الناتجة عن الكوارث، والتي تميز بين:

 

أهم النتائج

منذ 2011 انخفض عدد سكان الأرياف انخفاضًا كبيرًا، وعلى الرغم من نزوح جزء كبير من مناطق أخرى إلا أن سكان الريف الآن يمثّلون 70 في المئة فقط من سكان الأرياف في سنة 2011، ما يهدد، فيما لو استمر هذا الاتجاه، بتفريغ مناطق الريف من السكان، ما يجعل عملية استرجاع النشاط الاقتصادي أكثر صعوبة في المستقبل. وأشارت نتائج التحليل إلى أن نحو 75 في المئة من الأسر الريفية، ما زالت تنتج الطعام لاستهلاكها الذاتي، لكن الغالبية العظمى لا يكفيها إنتاجها الذاتي لتغطية أكثر من ربع استهلاكها، وذلك بسبب صعوبات كبيرة تواجهها الأسر في توفير مستلزمات الإنتاج نتيجة ارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية، حيث ارتفعت أسعار الغذاء بمعدل 800 في المئة، في الفترة 2011-2016.

دمرت الحرب مساحات كبيرة من البساتين والحقول التي خرجت من دائرة الإنتاج كليًّا أو جزئيًّا ويواجه المزارعون صعوبات بالغة في الحصول على مستلزمات الإنتاج من بذار وسماد وغيرها، إضافة إلى التدمير الكبير في البنى التحتية المتعلقة بقنوات الري ومستودعات التخزين والتبريد، حتى وصلت القيمة الكلية للخسائر والأضرار إلى 16 مليار دولار أمريكي بالأسعار الجارية، ويعادل هذا ثلث الناتج المحلي السوري في 2016. منها نحو 3.2 مليار دولار كلفة الأضرار في البنى التحتية.

انخفضت المساحات المزروعة بالمحاصيل، بنسبة تراوح بين 30 و40 في المئة منذ 2011، وانخفضت إنتاجية الأرض انخفاضًا كبيرًا نتيجة صعوبة الحصول على المدخلات ومياه الري، ووصلت كلفة الدمار في الأشجار المثمرة إلى أكثر من 900 مليون دولار، نتيجة القصف والتحطيب خلال السنوات الست الماضية، بينما وصلت تكاليف الخسائر والدمار في قطاع المحاصيل كاملة إلى أكثر من 7 مليار دولار. وتضررت أيضا نشاطات الإنتاج الحيواني تضررًا كبيرًا، حيث فاقت نسبة الخسائر والأضرار نسبة مساهمته في القطاع الزراعي قبل 2011. حيث تجاوزت التكاليف 5,5 مليار دولار أمريكي أي ما نسبته 45 في المئة، من كلفة الخسائر والأضرار في القطاع الزراعي بينما كانت نسبة الإنتاج الحيواني في القيمة الكلية للإنتاج الزراعي لا تتجاوز الـ 40 في المئة في 2011. وتسبب بيع الحيوانات نتيجة عدم القدرة على الاستمرار وضعف الرعاية البيطرية في النسبة الأكبر من الخسائر، بينما تسبب انتشار السرقة والاستهلاك الأسري والقتل من جراء القصف في الباقي.

وقد ترافق كل ذلك مع ضعف شديد أو غياب كامل للخدمات التي كانت تقدمها الدولة للقطاع كما صرح بذلك 85 في المئة من الأسر التي ساهمت في المسح. وصرح 25 في المئة من الأسر عدم قدرتها على الحصول على البذار، 50 في المئة عدم قدرتها على الحصول على الأسمدة، و40 في المئة عدم قدرتها على الحصول على الفيول، عدا غياب للمبيدات المعتمدة الأمر الذي اضطر إلى استخدام مبيدات خطِرة أو ضارّة. وصرح 20 في المئة من الأسر أنها افتقدت افتقادًا كاملًا مصادر الري، بينما تواجه 40 في المئة أخرى تكاليف مرتفعة جدًا في الحصول على الري، بسبب ارتفاع تكاليف الفيول (يبدو أن الـ 40 في المئة المتبقية من الأسر تعتمد أصلًا على الزراعة البعلية).

رتب التقرير المحافظات بحسب كمية الأضرار والخسائر فجاءت الحسكة والرقة في المرتبتين الأولى والثانية، تلتها ريف دمشق ودير الزور ثم درعا وإدلب، حيث فاقت القيمة الكلية للخسائر والأضرار مليار دولار في كل منها. أما باقي المحافظات فكانت كلفة الخسائر والدمار فيها أقل من مليار دولار، بينما لم تتجاوز نصف مليار دولار في كل من اللاذقية وطرطوس والسويداء (لا يذكر التقرير أرقامًا دقيقة عن توزيع الخسائر بحسب المحافظات، بل يكتفي بخرائط يصنف فيها المحافظات وفق عتبات أكثر أو أقل من حد معين).

ينطلق التقرير في بناء رؤية مستقبلية من نتائج المسح الذي يعكس آراء الأسر المشاركة في المسح، ويستنتج أن احتياجات القطاع واضحة بحسب نتائج المسح. ففي المرحلة الأولى يجب التركيز على تزويد القطاع بالمدخلات الأساسية من البذار والسماد للإنتاج النباتي والعلف والدواء للإنتاج الحيواني. أما في المرحلة الثانية فيبدأ العمل في تأمين التمويل والقروض والتسويق والتصنيع إضافة إلى إصلاح البنى التحتية. ويعتمد التقرير 3 سيناريوهات مستقبلية في السنوات الثلاث القادمة حيث ستتراوح كلفة تنشيط القطاع بين ما قيمته 11 و17 مليار دولار بحسب السيناريو. فإن استمر الحال على ما هو عليه فستكون الكلفة 11 مليارًا، لكنها سترتفع إلى نحو 15 مليارًا، إن عاد جزء من المهجرين من الخارج إلى مناطقهم في الريف نتيجة حدوث عودة جزئية للسلم، لتصل إلى 17 مليار، إن حدثت صورة من صور الانتقال السلمي، إذ يُتوقع أن ترتفع نسبة العائدين. ويستعرض التقرير آراء الأسر في خصوص موضوع النزوح حيث صرح 56 في المئة، أن دعم القطاع سيؤدي إلى وقف النزوح، 22 في المئة يرون أن ذلك سيؤدي إلى عودة النازحين في الداخل السوري، و16 في المئة صرح بأن ذلك سيؤدي إلى عودة النازحين من الخارج. 6 في المئة فقط صرحوا بأن ذلك لن يُحدث أي تغيير، ومن ثمّ، فإن حركة النزوح الحالية ستستمر.

ونتيجة الحجم الكبير في الدمار يضع التقرير أولويات للتدخل والمساعدة بناء على مؤشرين الأول كلفة الخسائر والأضرار على مستوى المحافظة، والثاني مؤشرات القابلية للحوج (التي لم يتم ذكرها في التقرير إلا في الخاتمة) وهما مؤشران: نسبة الأسر التي تنفق 75 في المئة، من دخلها على الطعام ونسبة الأسر التي تعتمد على مصدر واحد للدخل. من ثمّ، يأتي الترتيب الآتي للمحافظات من حيث أولوية التدخل:

 

قصور التقرير ونقاط ضعفه

يركز التقييم على القطاع الزراعي ويتجاهل الأجزاء الأخرى من سلسلة القيمة الزراعية المتعلقة بالتصنيع الزراعي والخسائر في قطاع الصادرات حيث إنها تدخل وفق التصنيفات الاقتصادية في قطاعي التصنيع والتجارة، لكن هذا يؤدي حتمًا إلى التقليل من أهمية الضرر الحاصل في قطاع الزراعة عبر الارتباطات التي يملكها القطاع مع القطاعات الأخرى، وهي ارتباطات متعلقة بالمواد الخام اللازمة للتصنيع الزراعي بما في ذلك من خسائر في القيمة المضافة وصولًا إلى التجارة الداخلية والتصدير. كما يتجاهل التقرير الخسائر الناتجة عن تدمير البنى التحتية العامة كالطرق الزراعية والطرق العامة، وتلك المتعلقة بالقطاعات الأخرى التي لها تأثير مباشر أو غير مباشر على القطاع الزراعي.

يتجاهل التقرير العوامل السياسية بالكامل مع أنها حاسمة في الأزمة السورية، ولها دور كبير في تكوين آراء الأسر الريفية التي شاركت في المسح. فعلى سبيل المثال صرح 6 في المئة فقط من الأسر أن دعم القطاع الزراعي لن يكون له أي أثر على حركة النزوح أو عودة النازحين، بينما الأغلبية (94 في المئة) كان لها رأيها في أن العملية ستؤدي إما إلى إيقاف النزوح أو إلى عودة ولو جزئية للنازحين. بكل تأكيد رأي الأسر سيخضع لمصالحها من حيث إنها مقيمة في الداخل ولها مصلحة بالدعم، بينما لم يرصد التقرير آراء الأسر النازحة والتي قد يكون لها رأي آخر في أسباب النزوح أو دوافع العودة. ففي مسح أجراه البنك الدولي مع اللاجئين السورين في تركيا نجد أن نسبة الذين نزحوا لأسباب اقتصادية لا يتجاوز 1,5 في المئة في عامي 2013 و2014، بينما نزح ما يزيد على 90 في المئة لأسباب متعلقة بالأمن، ونحو 4-6 في المئة لأسباب متعلقة بالآراء السياسية[1]. هذا يعني أنه ربما كان الـ 6 في المئة من الأسر، هم من قالوا الحقيقة.

ونتيجة غياب البعد السياسي يقع التقرير في خطأ منهجي في وضع الأولويات وصوغ سيناريوهات المستقبل، إذ يتحدث في الخاتمة عن ضرورة عدم تكرار أخطاء الماضي، فيما يتعلق بالممارسات الزراعية التي يصفها التقرير (بحق) بأنها غير مستدامة، من حيث استهلاك المياه نتيجة دعم محاصيل مستنزفة للماء، إضافة إلى قلة استخدام التقنيات الحديثة في الري. لكن التقرير لا يأتي على أي ذكر ضرورة وجود وضع سياسي مستقرّ شرطًا لذلك، ولا يأتي على أي نقاش متعلق بالحوكمة، وقد أصبحت العمود الأساس لأي مناقشة في أي عملية تنمية.

ويقع التقرير في خطأ، بوضع أولويات التدخل والدعم، إذ إنه يعتمد على الكلفة الكلية للخسائر والدمار على مستوى المحافظة معيارًا أساسًا لترتيب المحافظات على سلم أولويات التدخل، بينما من المفترض أن يكون المعيار هو الكلفة الكلية بالنسبة إلى الفرد الواحد. فعلى سبيل المثال يذكر التقرير أن الكلفة الكلية في القنيطرة كانت صغيرة في المجمل، بسبب صغر المحافظة، لكنها الأكبر فيما لو حسبت نسبة لعدد سكان ريفها. وهذا ينطبق حتمًا على درعا وإدلب بسبب صغرهما، ونسبيًا على حمص حيث تركزت الخسائر والأضرار في مناطق معينة (الرستن والحولة والقصير). وبناء على ذلك كان من الأفضل ربما وضع ترتيب أولويات التدخل بناء على المناطق الإدارية، وليس المحافظات بعد حسابها على مستوى الفرد.

 

خاتمة

على الرغم من جوانب القصور المذكورة أعلاه، يُعدّ هذا التقرير بداية جيدة، حيث إنها المرة الأولى التي تقدم فيها منظمة دولية دراسة بهذه الشمولية بالاستناد إلى معلومات مستمدة من واقع الناس، مهما كانت نسبة تحيزها. وبذلك يمكن أخذ هذا التقرير على أنه نقطة تحول مهمّة في التوجه الدولي تجاه المسألة السورية، قد تتبعها خطوات أخرى من مؤسسات أخرى، بهدف فهم أوسع للاقتصاد السوري ودوره في مستقبل سورية والمنطقة، وهذا سيكون مؤشرًا على التوجهات الدولية اتجاه ملف إعادة الإعمار الذي سيكون الملف الأعقد بعد ملف التسوية السياسية، وعلى السياسيين السوريين ومراكز أبحاث الإعلام السورية أن تأخذ ذلك في الحسبان، وأن تركز جهدها أكثر على الجوانب الاقتصادية، وبهدف البدء في بلورة رؤى واستراتيجيات تنموية سيكون لها دور حاسم في تثبيت الاستقرار وإحلال السلام بعد أي تسوية سياسية، بما يخدم مصالح السوريين أولًا وآخِرًا.

[1] ورقة صادرة عن البنك الدولي بعنوان “سورية إعادة الإعمار لأجل السلام” متوفرة على الرابط التالي باللغة الإنكليزية https://openknowledge.worldbank.org/bitstream/handle/10986/24010/9781464809071.pdf تم تحمّيلهات بتاريخ 18/ نيسان04/ أبريل 2017.




المصدر