مَنْ عساه يُصغي؟
30 نيسان (أبريل - أفريل)، 2017
إبراهيم صموئيل
في ختام شهادته عن تجربة السجن بعنوان “الطريق الى تدمر” -مؤرخة في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2003- يخلص ياسين الحاج صالح إلى القول: “أودّ في الختام أن أستعيد خاطرًا ألحَّ عليَّ في “باستيلنا” المريع: هذا سجن لا يجوز هدمه أو إغلاقه. لِمَ لا نقلبه إلى متحف لأدوات التعذيب، ونشيد فيه نصبًا يُكرّم عذابات ضحاياه، ويعلن أننا لن ننساهم، ونسمّي هذا النصب نصب التوبة، توبتنا جميعًا؟ هذا جزء من عمليّة أوسع، سياسية وثقافية وقانونية وإنسانية، تهدف إلى ضمان تسامي السوريين على أي دوافع ثأرية ممكنة، وقطع الدائرة الجهنمية لتبادل مواقع القاتلين والمقتولين. فالضحية الدائمة، لهذه الدائرة، هي الجميع وبلاد الجميع”، خالصًا إلى التأكيد على أن “سجن تدمر عارُ سورية؛ وبتكريم ضحاياه نوزّع هذا العار علينا جميعًا وبالتساوي؛ لا لأننا متساوون في المسؤولية عن الماضي، لكن تعبيرًا عن استعدادنا لتحمّل المسؤولية معًا في المستقبل”.
وأذكر بأنني ذُهلت -للوهلة الأولى- من أن يكتب إنسان -بعد قضائه سبعة عشر عامًا من أبهى سنوات عمره سجينًا داخل أشدّ المعتقلات والسجون العربية بؤسًا- كلامًا كهذا، في حين كنت أحسبه بات مترعًا بالغضب والحقد ورغبة الانتقام. غير أن شعوري -في الوهلة التالية- تحوّل إلى غبطة لأن سجينًا ظُلم ظلمًا فادحًا، وعلى الرغم من ذلك نراه يدعو إلى توزيع عار السجن علينا جميعًا، كي نهيئ للمستقبل واقعًا حرًا وعادلًا وكريمًا.
و لقد تمنيت عليه -حينذاك- ضمَّ شهادته هذه إلى مجموعة مقالات له، ثم إصدارها في كتاب تحت عنوان “نصب التوبة”، لما يمكن أن تحمل هذه التسمية من دلالة كبيرة، على ضرورة قيامنا بطيّ الماضي والبدء بفتح صفحة جديدة، تُصان للناس فيها حريتهم وكرامتهم وعدالة حياتهم وحقوقهم الإنسانية المتعددة.
بطبيعة الحال، لم يكن ياسين وحيدًا في دعوته هذه، ثمة كثير من الناشطين والكتّاب والمثقفين السوريين الذين دعوا -بطرائق متعددة- دعوات محمّلة بالروح نفسها، ورانية إلى الأمل نفسه، بل أكثر من ذلك ثمة من المسؤولين الكبار في السلطة مَنْ كان يرى ضرورة تدوير زوايا الطغيان، وتخفيف درجة إرهاب الناس، بقصد فتح صفحة جديدة، علّها تُنفّس من الاحتقان الشعبي، وتوفّر الأمان للسلطة، وتشعر المحكومين بمناخ سياسيّ جديد، في آن معًا.
فكيف كانت النتيجة لدى السلطة الحاكمة؟ كعهدها، اعتبرت السلطة أن ذلك كلّه “علاك بعلاك” و “حكي جرايد ومثقفين” لا يساوي قيمة الحبر الذي كُتب به، ومضى الأسد الأب بما بدأ به، ضاربًا بما قيل -سواء من الكتّاب أو بعض رجال سلطته- بعرض حيطان السجون والمعتقلات، ومُضيقًا مزيدًا على السوريين، ومانحًا أجهزة المخابرات سلطات أوسع؛ حتى باتت تتحكم بالنشرة الجوية للبلد، على قولة ممدوح عدوان.
الآن، وبعد كل الكوارث التي شهدتها البلاد -في عهد الطاغية الصغير- منذ انطلاق المظاهرات حتى يومنا؛ ما عسى يمكن الكلام عنه، والدعوة إليه، والأمل به؟ مَنْ تراه يصغي، ومَنْ تراه يستطيع أن يصغي؟ ما السبيل -بعدُ- إلى الحكمة أو العقل أو الرشد أو الموضوعية أو اجتثاث نزعة الثأر أو طي صفحة الماضي أو محو الأحقاد، أو نسيان مَنْ مات، أو غضّ البصر على ما فات؟ ما السبيل، إلى إشادة نصبٍ، والدم جرى أنهارًا في وضح النهار، وما زال يجري، على أيدي عصابات حاكمة لا شبيه لحقدها؟
[sociallocker] [/sociallocker]