رواية: الروائيون


آرام كرابيت

تعدّ رواية (الروائيون) للروائي الأردني غالب هلسا، دقيقة جدًا في رصد الواقع العربي عامة، ومصر خاصة، من خلال تسليطه الضوء على سجون مصر السياسية في زمن الرئيس جمال عبد الناصر، قبل نكسة حزيران وبعدها، وسذاجة القوى السياسية: حزب الوفد، والإخوان المسلمون، والشيوعيون.

ربما الخواء، أو الفقر المعرفي والفكري له علاقة بهذا الإنتاج السياسي العاجز. وربما لأن المجتمع العربي عائم، منفصل عن نفسه وواقعه، وربما لأن القوى الحاكمة تثبط حركة المجتمع وتعيق حركته وتطوره، وربما الموروث الديني والاجتماعي، لهما علاقة بهذا التأخر العربي، وبعده عن الحداثة.

رواية عميقة، تدخل أو تلج في النفس الإنسانية: الرغبات والأحلام الواقعية والمريضة، الدوافع الجنسية الضاغطة، الحرمان من المرأة، البحث الدائم عن الجسد الأنثوي الجميل واللذيذ، في الحلم وحلم اليقظة. في السجن، تتحول إلى كائن فوق طبيعي نتيجة انسداد الأفق في الوصول إليها.

إن أقسى غربة يعانيها السجين هو بعده عن المرأة. وربما لا يوجد من يعرف قدر المرأة إلا من حُرم منها. وتتحدث الرواية عن الجنس، الشذوذ، الاحتلام الجنسي نتيجة الكبت الطويل. وتتحول الرغبات الحقيقة إلى تفريغ خلّبي في المنام.

رداءة الواقع تنتج عملًا إبداعياً راقياً، في مجال الأدب والفن، بكل ألوانه وأشكاله؛ حيث يتحول إلى حامل، كاشف حقيقي للواقع، عبر تشريحه، من أجل تغييره. وهذا ما نراه في هذا العمل الإبداعي الجميل، بفجاجة ووقاحة وعمق.

الروائيون، لم تأخذ حقها في البحث والدراسة. إن هذه الرواية تطرق عدة أبواب، وتعري عالمنا العربي والمشرقي، في الجانب النفسي والاجتماعي والسياسي، وعالم الجنس والشذوذ. إنها رواية مركبة وعميقة في إسقاطاتها ومراميها وأهدافها.

إن غالب هلسا، يكتب على المكشوف، دون لف أو دوران، أو ما يسمى عيب أو خجل. فشخصياته غير متوازنة، شاذة، على مختلف المستويات، يعيشون تناقضات فظيعة، مثل تناقضات المجتمع وهزائمه وانكساراته. ويتوغل في البنية النفسية للمعتقلين، في كل تنظيم سياسي على حدة: الإخوان المسلمون، حزب الوفد، الشيوعيون.

إن البنية النفسية، تموضعها، ارتكازها، ارتكاسها، له علاقة بالتموضع السياسي لكل حزب. بمعنى، كلما كان الفرد أو الحزب قادرًا، على معرفة الواقع الاجتماعي والسياسي والمعادلة الدولية، كان أقدر على فهم ما يجري حوله، ومدى تماسك بنيته النفسية ومحاولته في معالجة الرضات النفسية التي يتعرض لها.

المفاجأة الأكبر في الرواية، هي اعتقال أعضاء من حزب الوفد، من قبل استخبارات عبد الناصر الذي تولى الوزارة معظم الوقت، في مصر منذ عام 1924 إلى عام 1952، أي، في فترة الملك فؤاد، والملك فاروق، ومنهم عبد الخالق ثروت ومصطفى النحاس باشا الذي تولى مرات عديدة رئاسة الوزارة قبل عام 1952

في أثناء وفاة النحاس باشا، آخر رئيس وزراء وفدي مصري منتخب، في عام 1965، تحولت جنازته إلى مظاهرة عارمة، تهتف للوفد، وتنادي بسقوط السلطة؛ وأدى ذلك إلى اعتقال السلطات بعضَ القيادات القديمة لهذا الحزب المنحل.

تحول التشييع إلى مناسبة وطنية، وتوسع إلى أن وصل العدد إلى نحو ربع مليون إنسان.

في أثناء تواجدهم في السجن، اقترح أحد الشيوعيين، زكي -باسم لجنة الحياة العامة- دعوة المعتقلين الجدد إلى العشاء، بعد أخذ الأذن من إدارة السجن والسماح لهم بالسهر مدة أطول، بعد التأمين.

كان لهؤلاء الأعضاء- في فترة الليبرالية السياسية- ألقابًا: سعيد بيه، فتاح بيه، عبد الرحمن بيه وصفوت ونعيم بيه.. أربعة منهم كانوا أعضاء في آخر برلمان قبل حركة يوليو، ووصول جمال عبد الناصر إلى سدة الحكم.

في الجلسة المسائية، يرصد الروائي غالب هلسا هشاشة فكر الوفد، فقرهم السياسي والثقافي، اهتماماتهم بالشكليات والمقامات، وعندما سأل إسماعيل، أحد أبطال الرواية:

– ماذا حدث في الجنازة؟ تنهد الوفدي سعيد بيه:

– شوية صيّع، عملوا المسألة كلها.

تبرأ هذا، السعيد بيه الجبان، من الرفض الشعبي لحكم العسكر! استخدامهم لهذه الجنازة كرافعة من أجل إعلان تمردهم على الحكم، لإدراكهم أن القوى السياسية والاجتماعية، في السلطة والمعارضة، مخصية، ولا تعبر عن مصالحهم. ولتأكيد تبرمهم، وتبرئهم مما حدث، أرادوا التعبير عن التفافهم حول الحكم بأسلوب باطني رخيص، عبر تدخل صفوت بيه المايع:

– أنا شخصيًا كنت واقف مع مدير المباحث واهه برضه اعتقلني. واصل سعيد بيه:

– الذين تجمعوا عند جامع عمر مكرم أفسحوا الطريق للنعش، ولكن حاملي النعش اندفعوا نحو ميدان الأوبرا، ثم ميدان العتبة، ثم شارع الأزهر، قال إيهاب:

– والرعاع وراءهم.

لقد تباهى سجناء الوفد، في أثناء السهر، بقدرات مصطفى نحاس باشا، في التأثير على الملك فاروق، في سياق الحديث عن محاسن الفقيد. روى سعيد بيه:

– كان الملك فاروق، قد رفض أن يمنح زكي عبد المتعال، لقبَ الباشوية. قرر النحاس أن يرغم الملك على منح الباشوية لزكي. وفي لقاء في قصر عابدين بين الملك والوزارة الوفدية قال النحاس:

– تقدم يا زكي، وقبل يد مولانا صاحب الجلالة المعظم، حتى يمنحك الباشوية.

هذا الفعل المذل، المخجل بكل المقاييس عدّه الوفديون جزءًا من محاسن النحاس، في الوقت الذي كان ينظر الشيوعيون إلى هذا الأمر، على أنه فعل خسيس ومذل ولا يقدم عليه إلا الشخصيات الهشة الذليلة التافهة.

والأشد غرابة أن تفكيرهم كان محدودًا، باعتقادهم أن الإنكليز ما زالوا يتحكمون بالأميركان والسوفييت. وفي معرض الحديث عن اعتقال الشيوعيين، قال فتاح بيه:

– لكن عبد الناصر شيوعي وأنتم شيوعيون.

تبين للشيوعيين أنهم قد بلغوا حد اللامعقول، أنهم أمام مواجهة تفتقد كل عناصر التواصل. وتأخذ السوريالية الأمور إلى المدى الأوسع، عندما استيقظ الشيوعيون صباحًا، فاكتشفوا أن “الإخوان المسلمون” قد جهزوا البطانيات، وفردوها على الأرض، وكتبوا عليها شعارات غريبة بالقطن والغراء: يعيش بطل العروبة جمال عبد الناصر. ويسقط الإخوان المسلمون العملاء. لا رجعية ولا إخوان ولا متاجرة بالأديان. هذه الصدمة، السوريالية بامتياز حفزت الشيوعيين للتدخل، فقاموا بزيارة لقادة الإخوان:

– أنتم تعلمون أننا نختلف معكم، لكننا نعتقد أن كرامتكم يجب أن ترفض شعارات كهذه. وتحدث إسماعيل:

– إن الإنسان موقف، وإذا تخلى عنه فهو ليس بإنسان. التقية أن تخفوا أسراركم عن السلطة، أما هذا فهو موقف مكشوف أمامها، ولن تكسبوا سوى إهدار كرامتكم. بيد أن هذا الكلام لم يغير المعادلة، خفضوا رؤوسهم وشكروهم.

البعض يظن أنه فهلوي، وأنه يستطيع أن يخدع السلطة ويضحك عليها. وكما هو معروف أن السلطة الاستبدادية، تتهاون في كل شيء إلا مع معارضيها، فهي تتمنى لهم الموت. والسلطة الاستبدادية لا تخشى العدو الخارجي، بل تطمئن له، وتستطيع أن تعقد الاتفاقات معه، ولكنها لا تتصالح مع معارض واحد، إلا من موقع الخاضع الذليل.

فكم هي شبيهة تلك الأيام بالواقع السوري الزاخر بهذه الإمعات الغريبة التي لا تفقه شيئًا في السياسة، وتحتل مواقع مهمة في الدولة والمجتمع، أو حتى في المعارضة.




المصدر