عيد العمال.. ماذا بقي منه؟


عقاب يحيى

كأنه اليوم هو الأول من أيار! كأنه العيد العالمي للعمال؟ كأنه، عندنا، بقايا ذكريات تشبه بكائياتنا على أطلال كثيرة!

البدء بهذه السخرية السوداء، على مرارتها، يحكي جزءًا من لوحة مصير التنبؤات التي سادت القرن الماضي، وأخصّ منها جوهر الماركسية واستنادها على مقولة “دكتاتورية البروليتاريا” انطلاقًا من تحليل ماركس لمراحل التطور البشري، في “آخر تشكيل” وصلته البشرية: النظام الرأسمالي الذي يحمل تناقضاته، ونهاياته في صلبه.. فالاشتراكية والشيوعية التي يشكل العمال سداها وروحها.

كان تفصيص النظام الرأسمالي، وفائض القيمة، ومنحى التطور البشري وفق تلك التصورات “التنبؤية” يؤدي إلى أن يصبح العمال القوةَ المنتجة الرئيسة، والمهيمنة على المجتمع والاقتصاد؛ فتفرز دكتاتوريتها التي هي هنا، كما وصفها أنجلس “الانتقال من مجتمع الضرورة إلى مجتمع الحرية” أي الاشتراكية، فالشيوعية التي ستصبح النمط الإنتاجي السائد؛ فينتفي الاستغلال، ويحل التناقض بصورة سلمية لا تستخدم ما اصطلح على تسميته بـ “العنف الثوري”.

انتشرت الأفكار الماركسية بقوة الحاجة إلى بديل شمولي، تزيده ضرورةً أزماتُ الرأسمالية المتعاقبة، والحروب الكونية التي أفصحت عن هوية الصراعات وجهًا من وجوه تركيب وأزمة النظام الرأسمالي، وانعكاس ذلك على واقع العمال والمجتمعات الكونية. فأصبح العمال قوة ضاربة، وبات تكريس عيد عالمي لهم تحصيل حاصل واقع أوروبي، يتجه نحو الصناعة والإنتاج المتطور.

تحدّث ماركس في رؤيته تلك عن تطور المجتمعات موضوعيًا، وصولًا إلى مرحلة يصبح فيها الإنتاج الرأسمالي عامًا، ويسيطر على وسائل الإنتاج الزراعي وغيره، ويشكل طبقة عاملة كاسحة، فتأتي عمليات الانتقال طبيعيةً من النظام الرأسمالي إلى الاشتراكي، فالشيوعي.

وعلى الرغم من أنني لست بصدد تحليل مدى صوابية تلك النظرة، ومدى شموليتها لأنماط الإنتاج المتنوعة التي سادت في العالم، ولا سيّما ما يُعرف منها بالنمط الآسيوي، والخلاف على المراحل التي مرّ بها جزء كبير من العالم غير الأوربي الذي لم ينجز ثورات برجوازية، وكان اختلاط أنماط الإنتاج فيه كبيرًا، ومتعايشًا، ويركب على الدين ومجموعة من الاعتبارات المستمرة ، بما فيها تمازج وتداخل التكوينات الطبقية؛ إلا أن اللينينية أجبرت الماركسيىة على الانصياع لمقولات أخرى، فرضتها ظروف روسيا التي يصفها لينين، قبيل الثورة البلشفية، بأنها نصف إقطاعية. نصف رأسمالية. أي أن الظرف الموضوعي غير ناضج للثورة الاشتراكية، والطبقة العاملة ليست مهيمنة على الإنتاج والمجتمع، فقام بعملية تحويل كبرى كانت لها نتائجها الخطيرة التي تقع في صلب عوامل سقوط الاتحاد السوفييتي، و”المنظومة الاشتراكية”.

إن إحلال العامل الذاتي بدل الموضوعي كان عملية قسرية كبرى، تركت آثارها على جوهر الأفكار، وعلى الطبقة العاملة بالخصوص، والحريات العامة، والخاصة بالتحديد، ودخلت منظومة القولبة المفروضة.

فقد افترض لينين إمكانية أن يحلّ العامل الذاتي محلّ الموضوعي عبر ما يُعرف بحرق المراحل، أو تراكب الثورتين الديمقراطية والاشتراكية، استنادًا إلى عناوين دكتاتورية البروليتاريا المفرّغة من مضامين أدواتها؛ فاستُبدل الحزب بالطبَقة، ثم استُبدل بالحزب الهيئات القيادية: اللجنة المركزية، فالمكتب السياسي، ثم الحزب بالشخص الأوحد، وكانت الستالينية التعبير الصارخ عن ذلك الاستبدال الذي جوّف الأفكار الرئيسة واستبدل بها عبادة الفرد، والدولة البيروقراطية التي كان العمال أول وأكبر ضحاياها.

كان الموج قويًا عندنا، فاتجهت كثير من الأحزاب والقوى، وحتى النظم، بما فيها العسكرية، والفردية إلى إعلان تبنيها لعديد شعارات الاتحاد السوفييت، خصوصًا ما يتعلق منها بالنظام الشمولي، وإلغاء الحياة الديمقراطية، ومصادرة حريات الفرد من خلال تلك الأقنمة المعلبة فيما يعرف بالديمقراطية الشعبية، وتحويل العمل النقابي، وأولها اتحادات العمال إلى منظمات ملحقة بالسلطة، تخون قياداتها مصالح العمال، وتبيع حقوقهم بالمكاسب الشخصية والحزبية التي تحققها، بل تحوّل كثيرٌ منها إلى جهاز أمني يكتب التقارير بالناشطين من العمال، ويسهم في خنق، وسحق أيّ رأي مخالف.

من جهة أخرى، فإن بعض التنظيمات اليسارية حاولت اصطناع واقع عمّالي فيها عبر عمليات طفولية، تحاول قسر الواقع وليّها لتخدم الفكرة المقررة سلفًا عبر الطلب من بعض أعضائها ترك دراستهم والالتحاق بالمصانع، أو بأنواع من العمل كي يتحولوا إلى عمال، فضلًا عن اللجوء إلى بعض الأسماء العمال وتصديرها من دون معايير صحيحة، وأهلية جديرة باحتلال مواقع قيادية، فبدت العملية صورية، وشكلية.

اليوم حين نتكلم على واقع الطبقة العاملة في بلادنا، قبل الثورة وبعدها، سنعرف أن تلك الطبقة مُسخت تمامًا عبر ما يُعرف بالاتحاد العام للعمال، وفرض أدوات النظام وأزلامه، وكتبة التقارير والمخبرين في مواقع القيادة، وتحويله إلى جهاز بائس ملحق بدوائر الأمن، والحزب المفرّغ من أي مضمون حقيقي.

أكثر من ذلك، وعبر تعميم الفساد المنظم، وسيطرة المافيا “أهل النظام وأتباعه” على مفاصل الاقتصاد السوري، ونهب وتخريب القطاع العام وتحويله إلى قاع صفصف، وواجهات منخورة، بواقع سيادة نظام استهلاكي متوحش.. وانقسامات فئوية منهجّة لشرخ الوحدة المجتمعية، والعلاقات النقابية، نعلم حجم مأساة عمال بلادنا، وتعاملهم مع يوم العمال العالمي.

اليوم، وقد قام النظام بتدمير معظم المنشآت الصناعية في بلادنا، وتخريب الصناعة، وتعميم حرب الإبادة ضد شتى أنواع الحياة، وأمام حالات النزوح، والهجرة واللجوء.. قد حلّت مأساة شاملة بالمجتمع السوري، هي الأكبر والأكثر قسوة بعد الحرب العالمية الثانية، العمال فيها أول وأكبر الضحايا بما في ذلك انحدار جلّ الطبقة الوسطى إلى ما دون خط الفقر، وتعميم الفقر والجوع وسط غلاء فاحش، وموت يومي، وندرة المواد، ونشاط السوق السوداء التي تمسك بها عصابات نهمة، كثيرها يتبع للنظام المافيوزي، العائلي.

ماذا يقول عمال سورية في يوم عيدهم، وعوائل كثيرة فقدت جل أبنائها، أو تمزقت بفعل الهجرة واللجوء؟

أيّ عيد لعمال سورية، والموت يحصد العشرات يوميًا؟ والأفق مسدود أمام حل شامل يعيد الأمن والأمان لبلادنا المهددة بالتمزق، والتيه في مسارب ومصالح الدول الإقليمية والخارجية.

مع ذلك.. وعلى الرغم من هذه التضحيات النادرة، فالشعب السوري، في أغلبيته لا يملك خيارات كثيرة، بل إن تصميمه على إسقاط نظام الفئوية والفساد، وإقامة النظام البديل. نظام الحريات العامة والفردية الذي ينعم فيه الجميع بالمساواة. هو السبيل إلى إنهاء المأساة، والطريق إلى الاحتفال بعيد عمال حقيقي، يُقدّس العمل، ويُحرره من كل الموبقات والاستغلال.




المصدر