في الدولة الإسلامية (2_2)


عبد الواحد علواني

النموذج التاريخي التالي هو دولة محمد علي باشا في بلاد النيل؛ فبعد أن استقرت الأمور لهذا الألباني المولود في مقدونيا، اتجه نحو بناء دولة حديثة على النسق الأوروبي، ولجأ إلى “السان سيمونيين” الفرنسيين، في المشروعات الاقتصادية؛ فبنى قاعدةً صناعية كبيرة للدولة، مع اهتمامه بكل ما تحتاجه من مؤسسات، وأرسل في سبيل ذلك البعثات العلمية التي عادت بأفضل الخبرات الإدارية والعملية والعلمية، وكانت أولى فئات التكنوقراط على مستوى العالم الإسلامي؛ وبدأت نهضة كبرى وشاملة لكل مناحي الحياة، جعلت الكثير من الشعوب يتطلع إلى دولة محمد علي التي بدت نموذجًا نهضويًا طموحًا. لم يصطدم اهتمام محمد علي، بالتعليم الحديث والقوانين الجديدة ودولة المؤسسات، بالهوية الإسلامية، وعلى الرغم من وجود امتعاض محدود جدًا حول تغريب المجتمع المصري، إلا أن إجراءاته لم تكن مستفزة أو ذاهبة نحو الانسلاخ عن الانتماء إلى الفضاء الديني. ونجح في فهم المعادلة في بلاد النيل، المعادلة التي أخفق كثيرٌ من السياسيين المعاصرين في فهمها، وهي أن التشدد الديني في مصر لا يظهر إلا عندما يفتقد الناس أي أفق تنموي أو أمل نهضوي. أتبع سياساته في بناء المؤسسات ببناء مشاريع هامة جدًا (القناطر الخيرية، مثالًا)، وإعادة الترتيبات الإدارية لتتسق مع العصر، ولا سيّما في مسائل الجباية والضرائب، وفتح الباب للاستثمارات الصناعية والزراعية العملاقة. هذا الوهج الذي جاء به محمد علي باشا، انطفأ مع حفيده عباس حلمي الذي تولى البلاد في الأشهر الأخيرة من مرض ووفاة محمد علي، لكن الأخير كان قد نقل مصر بالفعل من مرحلة إلى مرحلة. في ظل أسرة محمد علي، تراوحت نهضة مصر بين الصعود والهبوط، إلى أن أنهى انقلاب الضباط الأحرار الحكمَ الملكي في مصر؛ ودخلت مصر عهدها الجمهوري بأيديولوجيات قومية قمعية، أشغلت المصريين عن أحلامهم وطموحاتهم. ومع أن الجمهورية قامت بدعوى تأسيس دولة بعيدة من الفساد، إلا أن عهد أسرة محمد علي كان أقرب إلى مفهوم الدولة حتى في تعريفاتها الحديثة.

في التسعينيات من القرن الماضي، برزت ماليزيا دولةً حديثةً ذات طابع إسلامي، دولة حديثة في الإدارة والإنتاج، حققت نسبَ نمو عالية جدًا، ولم تقع في المصيدة التي وقعت فيها النمور الآسيوية، محمية بطابعها الإسلامي في إتاحة فرص الاستثمار فيها، الأمر الذي فتح أبواب الاستثمار من دون أن تمنحها إمكانية التلاعب بالخيارات التنموية، وما زال استقرار الإنتاج فيها، والإشراف غير المباشر من الدولة على السياحة والصناعة، من خلال نواظم ومقاييس عامة ومنضبطة، تدفعها نحو الصدارة، وتمتعها باقتصاد قوي ينعكس على المجتمع أمنًا واستقرارًا ونهضة.

لكن المثال التركي أكثر وضوحًا وجلاء، بسبب مجاورته لأوروبا المتوجسة منها على أكثر من صعيد. وإن كانت السياسات الأتاتوركية قد وفرت لها حماية كبيرة، فإن الاتجاه الإسلامي الذي حافظ على المؤسسات الأتاتوركية، وانطلق من تجربة البلديات، استطاع أن ينهض بالاقتصاد التركي الذي كان مهترئًا بسبب الصراعات السياسية وما صاحبها من فساد إداري. عنصر الحماية الذي تجلى في الرغبة التركية في دخول الاتحاد الأوروبي طوال عقود، إضافة إلى دخولها في حلف الناتو، كان السياسيون الأتراك، في مختلف المراحل، يدركون أن وجودهم في الناتو هو لحمايتهم من الناتو نفسه، وليس من أمل أن يضطلع الناتو بمهمة الدفاع عن تركيا ضد أي خطرٍ يهددها. والمفاوضات الأزلية مع الاتحاد الأوروبي، بكل تقلباتها، منحت تركيا فرصًا كثيرة تدعم بها نهضتها الإنتاجية على الرغم من كل إرهاصاتها وتوتراتها. ومع الانتقادات الكثيرة التي وُجهت لحكومتها ذات الطابع الإسلامي، إلا أنها بقيت في إطار اللعبة الديمقراطية، مشفوعة بالمشاريع الضخمة، وتطوير سبل الضمان الاجتماعي، وتحرير الإنتاج من التبعية الاقتصادية بمنهج محسوب، بتحمل الدولة التركية كل عواقب فك الارتباط بين الشركات التركية والشركات الأوروبية؛ الأمر الذي دفع هذه الشركات بداية إلى الضغط على حكوماتها الأوروبية لخلق مشكلات وأزمات مع الحكومة التركية، وتاليًا بدأت بالرضوخ إلى تصحيح العلاقة من تبعية إلى شراكة استراتيجية. وهو الأمر الأكثر ارتيابًا في موقف الشركات الكبرى من الإسلام، فالنمط الرأسمالي في علاقته مع الاقتصاد الإسلامي يتفق معه في مسائل الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج والثروة، ولكنهما يتباينان، إلى درجة التضاد، في مسائل الاحتكار. وهذا ما يجعل السياسات العامة في الغرب تحرص على اختزال الإسلام في اتجاهات متشددة، أو تابعة. وتحارب محاربةً حقيقيةً أيّ إمكانية لنهضة التيار المدني في الإسلام، مع أنه مطلب معظم المسلمين في الراهن.

تحديد أفق الحداثة، في بناء الدولة في النماذج الغربية، مجرد تعنت وصلف، يبطنان مصالح اقتصادية احتكارية للشركات العابرة للجغرافية والثقافة، قد لا تتوفر نظرية إسلامية ناضجة ومنافسة، في الوضع الراهن، مع وجود الأمثلة، لكن إمكانية ظهورها وبلورتها متوفرة، وقد تصل إلى درجة الأمثولة والنموذج المستقطب، وليس فقط النموذج المنافس. ومثالًا على ذلك، لا يمكن لأي اقتصاد أن يكون حديثًا خارج النظام الضريبي الذي يعني إعادة توزيع الثروة في المجتمع بما يكفل نهضة شاملة، هذا النظام الضريبي الصارم الذي قد يصل إلى الإجحاف أحيانًا والتعثر دائمًا، لا يستفيد من التجربة الضريبية في الإسلام، مع أنها تجربة تتعلق بركن رئيس لأي مجتمع إسلامي. والنظام الضريبي الأندلسي، والنظام الضريبي العام في الدولة العثمانية، وفي دولة محمد علي باشا، وحتى في النماذج الحديثة، كان لها أثر كبير في نهضة مجتمعات واقتصاديات منافسة وآمنة. انعكست على الفضاء السياسي في الراهن، في مسألة تداول السلطة على أساس برامج تنموية، لا على خلفيات أيديولوجية. وحتى ما يبدو أيديولوجيًا عبر التاريخ هو ليس كذلك عندما نقرؤه قراءة موضوعية، فموضوع الجزية تاريخيًا أُسيء فهمه عمدًا،  وكُرّست رؤية استشراقية في فهمه على أنه يمثل إكراهًا دينيًا، مع أنه على العكس من ذلك تمامًا. فالزكاة المفروضة على المسلم كان من الإجحاف فرضها على غير المسلمين؛ لأن الزكاة تحمل معنى عقديًا قد يشوش على عقيدتهم، فسميت جزية تدفع عن صغار (اضطرارًا وإجبارًا وليس اختيارًا) تمامًا كما تدفع الضريبة اليوم في أفضل المجتمعات الحديثة في راهننا. بل إنها كانت تميز غير المسلمين بإسقاطها عنهم إذا شاركوا في مهمة الدفاع عن الدولة، بينما لا تسقط الزكاة عن المسلمين مع وجوب دفاعهم عن الدولة وأمنها واستقرارها ونهضتها. وحُدّد مفهوم الجزية منذ مرحلة مبكرة في عهد عمر بن الخطاب، ليتناسب مع الموارد والأعمار.

استطاعت النماذج الحديثة إسلاميًا تجاوزَ مسألة المصطلحات المريبة التي أعطتها الثقافة الاستشراقية معاني مجحفة، وسوّقتها على أنها تمثل ضغطًا وإكراهًا أيديولوجيًا، تجاوزتها من خلال تأكيد مدنية الدولة من دون أن يفتقد المجتمع المسلم خصوصياته الأدبية والاجتماعية، ومن خلال إجراءات تشمل السكان، بغض النظر عن عقائدهم وأروماتهم، إجراءات ذات طابع إداري، غايتها تحقيق الرفاهية ودعم النهوض الشامل اقتصاديًا وفكريًا وتعليميًا وصحيًا، وخلق استقرارٍ سياسي وأمنٍ اجتماعي. ومع بعض الاضطرابات التي تعتور هذه النماذج، نكتشف أن بواعثها سياسات قوى كبرى، تأتمر بأوامر طبقة مافياوية من نخب مالية تدير الشركات العالمية الكبرى، ولا سيّما شركات السلاح التي تفتقد الأسواق من دون اضطرابات وأزمات عاصفة.




المصدر