الاستيطان والديموغرافيا ورمزية أسماء الأمكنة


مصطفى الولي

تفيد التجربة الأقرب إلينا -زمنيًا وجغرافيًا- بأن الغزو الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، قبلَ الإعلان عن تأسيس إسرائيل بعقود طويلة، وبعد الإعلان عن ولادتها، أقدمَ بداية على تغيير الديموغرافيا البشرية، ليصبح عدد السكان، يوم الإعلان عن الدولة الإسرائيلية، مختلًا لمصلحة المستوطنين اليهود (600 ألف يهودي، مقابل85 ألف فلسطيني). وجنبًا إلى جنب، وأولًا بأول، راحت المؤسسة الصهيونية تطلق أسماء عبرية على البلدات والمواقع الجغرافية، لتترسخ قوة الادعاء الصهيوني بأن البلد -فلسطين- هي أرض “اليهود التاريخية”.

تشهد سورية، في هذه المرحلة من تاريخها، محاولةً من هذا القبيل، تخطط لها طهران، وتنفذها اعتمادًا على أدواتها الطائفية، وبقبول من سلطة بشار نزولًا عند إملاءات الأجندة الإيرانية، مقابل حماية سلطته من ثورة الحرية التي فجرها السوريون في آذار/ مارس 2011.

لا يتطابق النموذجان الفارسي – الطائفي، والنموذج الصهيوني – اليهودي، لكنهما يلتقيان في الخط العام الذي يتأسس على اقتلاع أبناء البلد من أرضهم، بالإرهاب والقوة، وبوسائل أخرى أقلّ اعتمادًا، كشراء الأراضي والمنشآت. وفي النهاية يكون الهدف واحدًا، وهو تغيير الواقع الديموغرافي الاجتماعي والسياسي، خدمة لأغراض لا يُعلن عنها مسبقًا، كما هو حال الغزو الفارسي لسورية، أو يُعلن عنها في البداية، كما هو حال المشروع الصهيوني الذي أفصح عنه هيرتزل، في كتابه (دولة اليهود 1879).

إن نظرة إلى الممارسات العنفية الفاشية لأدوات طهران في سورية، وقد تُوّجت بعمليات ترحيلٍ منذ إرغام سكان مدينة القصير على مغادرتها، وصولًا إلى التبادل الديموغرافي بين الفوعا وكفريا مع الزبِداني ومضايا، تظهر بوضوح أن ثمة مشروعًا شاملًا يستهدف التكوين الديموغرافي للشعب السوري، لإحداث تغيير في التوازن السكاني لمصلحة المستوطنين “الشيعة” المجلوبين من أصقاع الأرض (أفغانستان وباكستان والعراق ولبنان وإيران، وسواهم)، ليكونوا الحاضن لمشروع الغزو الفارسي، والحامي له في مراحل لاحقة.

بعودة سريعة إلى زمن ما قبل الثورة السورية، يمكن الوقوف على الكثير من النشاطات الإيرانية في سورية؛ فعمليات “التشييع” لقطاعات من الفقراء بالإغراءات المادية، في شمال سورية وقرى الرقة، وفي جنوبها في قرى حوران، وحتى في أحياء دمشق الفقيرة، إضافةً إلى “التنقيب” عن كل ما له علاقة بالتراث الشيعي، من مقابر أو أماكن عبادة، وتنظيم رحلات السياحة الدينية للشيعة إلى سورية، زد على ذلك تكاثر ما يسمى “الحسينيات”، لم تكن نشاطًا عفويًا دينيًا أو اقتصاديًا.

الغزاة الاستيطانيون، وليس المستعمرون العاديون، لا يكتفون بالإجراءات الديموغرافية لبسط السيطرة وتدعيمها، فالرموز ضرورة أيديولوجية لاستكمال “الهوية” المنشودة. وفي مقدمة تلك الرموز تأتي أسماء الأمكنة التي يبسط الغزو سلطته عليها. فلقد أطلقت الصهيونية ألفاظًا عبرية على مدن وبلدات فلسطين وعدد من القرى، مثل (عكا – عكو، صفد – سفاد، يافا – يفو، الناصرة – نتسيرت). كما أنها أطلقت اسمًا عبريًا بدل الاسم العربي لهذه البلدة أو تلك. وفي قليل من القرى أو البلدات قامت المؤسسة الصهيونية بإطلاق اسم قائدٍ قُتل خلال المعارك لتأسيس الدولة، وبالمناسبة، وعلى سبيل المثال، بلدتي- قريتي في فلسطين اسمها “بلد الشيخ” قتل فيها ضابط من الهاغانا، اسمه” حنان- هنان زيلينغر” وهو يقود مجموعة هجوم على القرية، فأطلقوا على بلدتنا اسم “تل حنان”.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، تحضرني، في موضوع المخطط الفارسي المنتحل تمثيل الشيعة وتغيير أسماء الأمكنة، تلك الشاخصة المثبتة على الجسر الذي يصل كفرسوسة بداريا، فوق المتحلق الجنوبي بدمشق، والمكتوب عليه “السيدة سكينة”، وأُثبتت في مكان ظاهر من بعيد، وحجمها أضعاف حجم الشاخصة التي تشير إلى اتجاه مدينة داريا، وكان ذلك قبل سنوات طويلة من انطلاق الثورة وانكشاف أغراض إيران في سورية. في حينه قدَرت أن الغلواء الطائفية المجردة تفسر الاهتمام بوضع الشاخصة وموقعها وحجمها الكبير، لكنني اليوم أحيله إلى أجندة فارسية مخططة سلفًا ومن وقت مبَكر.

هناك أكثر من مدخل للعب بالأسماء وتبديلها، أو تأسيس أسماء جديدة لأمكنة تشاد حديثًا. فالحُسينيات، بما تشكل من رمز ديني للمذهب الشيعي، انتشرت في سورية منذ عقدين تقريبًا، ويمكن أن تتكاثر لإعطاء الانطباع بقوة الصلة بين المكان، بلدة أو قرية أو مدينة، وبين المذهب الذي تلعب به سلطة الملالي في طهران لتنفيذ أجندتها السياسية. ويمكن تسمية العديد من الأماكن بأسماء الشخصيات المقدسة في المذهب الشيعي، كالزهراء مثلًا، أو مستشفى الخميني. أو خلف ستار “تكريم الشهداء” بإطلاق أسماء البارزين منهم، من قادة في الميليشيات الشيعية، قُتلوا وهم يهاجمون الشعب السوري، على مدن وبلدات وقرى قتلوا فيها، أو إنشاء تجمعات استيطانية جديدة وإطلاق هذه الأسماء على كل واحدة منها، ظنًا منهم أن ذلك يجعل المكان رمزًا يلتف حوله الجهلة المجلوبون من أصقاع الأرض. وفي هذا المجال، ربما، من غير المستبعد كتابة شاخصات على مداخل المدن والبلدات باللغة الفارسية، إلى جانب أسمائها المكتوبة بالعربية، وسبق أن فعلت ذلك إسرائيل. فباللفظ العبري، كمثال ،أصبحت معليا، معالوت، وبئر السبع، بير شيفع وهلمّ جرًا.

ما ذهبت إليه في موضوع أسماء الأمكنة ينطلق من القناعة أن أصحاب المشروع “الفارسي” (الفارسي الشيعي)، عندهم من الغلواء التي تتغذى على الأوهام، وتنطلق من فبرَكة تاريخ المنطقة، بما يدمج العنصرية الفارسية بأيديولوجيا المذهب الشيعي، ليتوغلوا أكثر فأكثر في تنفيذ أجنداتهم، تمامًا كما سبقتهم إلى ذلك الحركة الصهيونية في فلسطين.

في الأخير، رغم التحذير من هذه الترتيبات، لا أعتقد أنها يمكن أن تستكمل على أرض الواقع وتلاقي النجاح، لكن الإصرار على محاولة تنفيذها سيجعل الوضع في سورية والمنطقة أشد احتدامًا في صراعاته وتناقضاته وجذرية استقطاباته، وستكلف مثل هذه المحاولات دماءً جديدةً وكثيرًا من الدمار. ولا أظن أن الناشطين السوريين وقوى المعارضة المدنية الواعية، سيتركون المجال سهلًا لتمرير حلقات جديدة من اللعب بحاضر سورية ومستقبلها. ولا تنبئ التداعيات الدولية والإقليمية في مقارباتها المتنوعة للحالة في سورية، بإمكان استيعاب هكذا ترتيبات وقبولها والسماح بتمريرها.




المصدر