الطغمة الأسدية والسيادة الوطنية
2 مايو، 2017
عبد الرحمن مطر
قال ضابط الاستخبارات العسكرية: “أترى كل هؤلاء المديرين في الدولة؟ نحن الذين نسند كراسيهم”.
عبارة بالغة البيان، تصف حال الدولة السورية، تركيبتها، ونمط قيادتها وإدارة مؤسساتها. في تصوري، لم تولد هذه “الرؤية” من فراغ، فثمة في العالم أصلٌ لها، وتاريخ البشرية حافل بنماذج تطبيقية لها. العقود السبع المنصرمة، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تشهد تراكمًا في طرائق إدارة العالم عبر مؤسسات الاستخبارات العالمية التي توظف كل القدرات والموارد السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، من أجل تحقيق غايات وسياسات، تخدم مصالح الدول الكبرى على سبيل التحديد.
الدول الوطنية الخارجة من جبّة الاستعمار حديثًا، سرعان ما وجدت نفسها تنضوي تحت مظلّة أخرى، لم تكن مساندة لاستقلالها، بالقدر الذي أرادته أن تكون تابعًا لها، فأضحت مقيدة باستراتيجياتها، بما في ذلك القرارات ذات الطابع السيادي. فلم يتبق لها سوى الحديث عن السيادة الوطنية، كلّما واجهت تحديًا قيميًا، أو اعتداء خارجيًا، لا تمتلك القدرة على المواجهة أو الرد، بسبب فقدانها القدرة على صناعة قرارها الوطني.
هذا هو حال سورية التي عصفت فيها التحالفات والمنظومات الإقليمية والدولية، منذ عهد الاستقلال حتى انقلاب الأسد عام 1970. إذ شهدت تلك المرحلة الحربَ الباردة التي طحنت الدول الدائرة في فلك القطبين السوفييتي والأميركي، وظل أوارها مستعرًا حتى حدوث التغيّرات الكبرى في شرق أوروبا، وتفكك منظومة حلف وارسو والاتحاد السوفييتي، مطلع تسعينيات القرن الماضي.
كانت سورية، في الستينات إلى الثمانينات، ترزح تحت وطأة الحرب الباردة، وتتأثر بها مباشرة، ومنذ استيلائه على السلطة، وضع الأسد مقدرات المجتمع والدولة في يد موسكو دفعة واحدة، وفي كافة المجالات من التنمية إلى التسلح، وربطَ القرار الوطني باتفاقية ما يُعرف بـ “التعاون والصداقة والدفاع المشترك – 1980”.
لقد شهدت سنوات الاستبداد الأربعين، لحكم الأسد الأب، تمتينَ استتباع الدولة السورية لموسكو، مع الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع المجموعة العربية، كانت تتواتر سلبًا وإيجابًا مع الأحداث والمصالح في المنطقة العربية. وقد جاءت اتفاقية بناء قاعدة بحرية عسكرية سوفيتية في طرطوس، عام 1971، لتطبع السنوات العشرين اللاحقة بالهيمنة الروسية، والتي تطورت إلى اتفاقية الدفاع المشترك، حتى انهيار الحقبة السوفييتية، ولم يلبث الأسد طويلًا أن اتخذ قراره، بالانفكاك عن موسكو في لحظة التحول والضعف، والانعطاف يمينًا نحو الولايات المتحدة.
حين قامت الثورة الإسلامية في إيران، كان النظام السوري حليفها الأهم في المنطقة، وبصورة تدريجية متسارعة أخذ يبني تحالف “الأسدية” مع ولاية الفقيه. وشكلت مواقفه في حربي الخليج الأولى والثانية، نقاطًا مفصلية في العلاقات مع طهران وواشنطن، إذ إنه دعم إيران في حربها مع العراق، وشارك في عاصفة الصحراء مقابل إطلاق يده في لبنان.
قدرة الأسدية على مواجهة التقلبات والمتغيرات العاصفة في المنطقة، بما فيها الحروب العربية الإسرائيلية، وحروب دمشق ضد لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، لم تكن تعتمد، بأيّ حال من الأحوال، على القدرات الدفاعية أو الاقتصادية السورية، فقد كانت تعتمد في ذلك إلى مرجعيتين هما موسكو وإيران، من جهة، ودول الخليج العربي الداعمة للمشروعات التنموية التي نخرها الفساد مبكرًا. لكن ما مكن الأسدية من الاستمرارية، هي تلك العلاقات المتميزة التي ربطته مع دوائر ثلاث أساسية: الخليج العربي، ليبيا وإيران، والثالثة الولايات المتحدة وإسرائيل.
اتسمت تلك العلاقة بالابتزاز مع الأولى. والندية مع الثانية (قبل أن تصادر طهران قرار المؤسسة الأمنية والعسكرية السورية بعد آذار/ مارس 2011). أما مع الثالثة فقد كان هناك خضوع كبير، ظاهره التحدي والمواجهة، وجوهره التفاهم على قواعد أساسية وتنسيق كامل ومشترك.
لقد كانت تلك الدوائر، بحسب قدرتها على التدخل وأهميتها ومكانتها الدولية ودرجة استجابة النظام السوري لشروطها، هي من يحمي “هيكل الأسدية” من الانهيار والسقوط، وهي التي وفرت لبنيته بيئة الضرورة الملائمة لنمو قدرته واستمراره، في ظل ظروف دولية وإقليمية بالغة التقلب والخطورة.
ومع انتقال الاستيلاء على المجتمع والدولة، إلى الوريث الابن، كانت طهران قد رسمت هلال الصفوية الممتد من إيران ليشمل العراق وسورية ولبنان، وبدأت فعليًا في توجيه امتداداتها، فوقعت “الأسدية” ضعيفة بين يدي كل من ملالي طهران، والولايات المتحدة التي استطاعت إجبار النظام السوري على التسليم المباشر للسياسات الأميركية في المنطقة، بعد غزو العراق 2003، لتنشأ قنوات انسياب المعلومات والخبرات الأمنية السورية بالتدفق نحو المركز الأميركي، كانت رسالة واشنطن التي نقلها كولن باول صارمة وقاطعة. وكان التزام دمشق مثيرًا إلى درجة المشاركة في ارتكاب انتهاكات واسعة للحقوق والحريات، في مخالفة ترقى إلى مستوى الجرائم، وفقًا للقانون الدولي، يتصل الأمر بالتعذيب والسجون السرية، وانتزاع المعلومات قسرًا من المتهمين، لصالح الاستخبارات المركزية الأمريكية، في الوقت الذي تقوم فيه بدور كبير في تجميع ونشأة الجماعات الإرهابية، بهدف جمع المعلومات، ودعم السياسات الأمنية الأميركية في المنطقة، وتعزيز مركزها كخادم مطيع ملتزم، من ناحية ثانية.
وقد شكلت المعالجة الأمنية، لمواجهة الثورة السورية، مفصلًا جديدًا في تبعية “الأسدية” واستعبادها من قبل القوى الدولية والإقليمية التي تركزت خيوطها هذه المرة، بدخول روسيا بصورة مباشرة، نتيجة للاتفاقات الموقعة مع دمشق، بدءًا من العام 2005، وصولًا إلى اتفاق (الأسد – بوتين) السري، الذي جعل سورية محمية روسية، مقابل حماية النظام، يضاف إلى ذلك تدفق القوات النظامية والميليشيات من إيران والعراق وحزب الله، بوصفها قوى احتلال عسكري شملت معظم الأراضي السورية، تلاها دخول القوات الأميركية والتركية، في الشمال السوري.
هذا الواقع عزز فقدان النظام لأي شكل من أشكال السيادة الوطنية، فقد أصبح الخضوع لتلك القوى أهمّ مقومات استمراره، وبقاء النظام بصورته الهشة هذه، مرتبط باستثمار مصالح تلك القوى الداعمة، وفقًا لما تقتضيه التحالفات والنزاعات الدولية في سورية والمنطقة.
ولم تكن إسرائيل بعيدة عن ذلك، فهي ترى فيه نظامًا أمثل، في التزامه بالاتفاقات والتفاهمات الشفوية والمكتوبة، عبر كيسنجر، وميرفي، وكولن باول، وصولًا إلى الموقف الذي اتخذته إسرائيل بدعم استمرار الأسد في السلطة، وفقًا للدراسة التي قدمتها الاستخبارات الإسرائيلية في 2014، لإدارة أوباما، توّضح فيها أن استقرار المنطقة مرتبط بالحاجة الإسرائيلية إلى بقاء الأسد.
كل تلك القوى هي التي تسند كرسي “الطغمة الأسدية” وهي تحكمها، وتمنعها من السقوط، على الرغم من كل التضحيات الجسام التي يقدمها السوريون من أجل الحرية والكرامة، واقتلاع الاستبداد. وعلى الرغم من كل تلك الجرائم والمجازر اليومية التي يستخدم فيها النظام أسلحة محرمة دوليًا، من دون تجريمه أو مسائلته، لتبقى قضية السيادة الوطنية مجرد جملة عابرة، يستخدمها النظام للتذكير بأنه موجود، في ظل فقدان كلّي للقدرة على مواجهة أي اعتداء: الغارات الإسرائيلية المستمرة بانتظام منذ سنوات، مثال حيّ.
الأسدية التي تعبّر عن أخلاقيات العالم الضالع في حمايته، لا يمكنها سوى إحراق ما تبقى من سورية، والسوريين.
[sociallocker] [/sociallocker]