أفلام قصيرة، وقيودٌ كثيرة


علا حسامو

الحرّاس عند البوابة جالسون يحتسون شايَهم البارد على مهل، مصدرين صوتَ ارتشافٍ غير مبال لا يسمعه سواهم، بسبب الجلبة التي يصنعها القادمون والقادمات، بنعالهم الملمعة، وكعوبهن العالية الحادة كخناجر، في فم الطريق وفي أذني. سياراتٌ تصطف هنا وهناك، كاميراتٌ محمولةٌ على الأكتاف، ميكروفونات منتصبةٌ في القبضات، عرقٌ ينز، رغم أنف المناديل، على جباه المنظمين والمصورين والصحفيين الراكضين تحت وابل الشتائم التي تضج في مخيلاتهم، على ألسنة وأصابع مديريهم ورؤساء عملهم وأسياد لقمتهم.

على طول الطريق المفضي إلى القاعة، تنتصب الكاميرات ككلابٍ لاهثة، تمدّ ألسنتها في انتظار اكتمال المائدة… وفي القاعة الواسعة ينتظم الحشد على الكراسي.

“نحتفي اليوم بالمواهب الشابة وهي تشق طريقًا صعبًا، من أجل إثبات الذات والتعبير عن مكنونات الوجدان”… هكذا، يفتتح وزير الثقافة الدورةَ الرابعة لمهرجان أفلام الشباب القصيرة، الفائزة، بمنحة المؤسسة العامة للسينما.

الحمد لله أنني لم أذهب إلى الافتتاح -كعادتي- فأنا أكره الافتتاحات وبروتوكولاتها وصخبها المزعج الممتلئ بالبزات الرسمية والفساتين الراقية والأوجه المغطسة بالماكياج والبريستيج والابتسامات الزائفة.

إلا أنني، وبدافعٍ شرعي من فضولي، ورغبتي في تتبع أثرٍ ما لتطورٍ، تجديدٍ؛ فنٍّ أو حتى أملٍ ما في هذا البلد الذي يلفظ أنفاسه بصعوبة عجوزٍ يصعد الدرج، أو بصعوبة شاب يحمل شهادته الجامعية، ويركض بين مكاتب العمل، أو ربما بصعوبة طفلٍ يبحث عن دفتر الرسم، بين ركام وحطام مدرسته.

توجهت بعزيمةٍ وتفاؤلٍ إلى دار الأوبرا، أنا والصديقة الوحيدة، من بين عشرة أصدقاء أو أكثر، من المهتمين والمتابعين للشأن الثقافي والفني، اقتنعت تحت ضغط إلحاحي وإصراري، بالمضي معي، نحو هذه النزهة الثقافية.

على أحد شباكي التذاكر وقفنا ضاحكتين متحمستين، حماسة من سمح لهما الوقت الاستثنائي، بالهرب من ضغط العمل وإرهاقه، لحضور شيءٍ ما، أي شيء، في هذا المكان اللامنطقي من العالم.

في السادسة إلا دقيقتين دخلنا…

الصالة مثل كأسٍ، نصفها فارغٌ والآخر ملآن، كان النصف الملآن موزعًا هنا وهناك، في النصف الأخير من الصالة، لا أعرف سبب اختيار أغلب الحاضرين المقاعد الخلفية! هل هو الخوف من أن يمسهم ما سيشاهدونه بلعنةٍ ما، أم هو الرغبة الطفولية بالشغب؛ وكلنا نعرف أن المقاعد الخلفية هي دائمًا ملجأ المشاغبين، أم أنهم اتبعوا المثل القائل “ابعد عن الشر وغنيلو”!؟
بدأ الفيلم الأول فالثاني فالثالث… يا إلهي! الضحك يملأ الصالة والهمسات ترتفع، لتصبح أحاديث مسموعة؛ سخرية، قهقهة، قهقهة.. قهقهة..

ثلاثون فيلمًا قصيرًا عُرضت في المهرجان، حظيت بشرف مشاهدة عشرةٍ منها، عشرة أفلام؛ٍ إن توخيت الدقة أمكنني توزيعها في الفئات التالية: مشهدٌ قصيرٌ من فيلمٍ هندي، بلباسٍ وإكسسواراتٍ سورية! اسكتش، قد يصلح لبرنامجٍ كوميدي خفيف، كـ “بقعة ضوء، تقرير تلفزيوني، مشهد من مسلسل تلفزيوني بدائي”. وتحريًا للإنصاف، فإن واحدًا من تلك الأفلام كان يحمل في طياته بذورًا منتشة لفيلمٍ قصير، وآخر لو توقف مخرجه عند الدقيقة الثالثة منه، لحقق نجاحًا في صناعة فيلمٍ جميل.

السمة الأساسية في كل تلك التجارب، هي المشاهد الزاخرة بالصور والشعارات الموزعة على أبواب الدكاكين، جدران الأبنية، ومعاصم الممثلين، باستثناء فيلمٍ واحدٍ استطاع الهرب! أعرف أن هذه هي حال شوارعنا اليوم، ولكن ما لم أفهمه هو: كيف استطاع مخرجٌ واحدٌ أن يهرب من هذه الألوان الفاقعة كلها!

هل هذه هي طاقات شباب سورية!؟ هل هذا هو مستوى إبداع شبابنا؟! هل هذا هو كل ما يستطيع شبابنا تحقيقه في السينما؟!

أسئلةٌ محبطةٌ لا ينقذني من نتائجها النفسية المزعجة، إلا معرفتي ومتابعتي لإبداع شباب بلدي، في الخارج، والجوائز الجميلة التي تنالها أفلامهم.

إذن المشكلة ليست في الشباب، إنما في المنظومة التي تعمل جاهدةً على تسفيه عقله وعقولنا، والترويج لنفسها بغباءٍ لا مثيل له، المنظومة التي لا تتوانى عن كشح كل فكرٍ مبدعٍ حر، واحتواء عكسه، المنظومة التي حين قررت أن تقدم دعمًا للشباب الذي أصر كثير منه على البقاء في الداخل، ومواصلة محاولة العيش وبث الأمل، وضعت عليه شروطًا وأشرطةً وشرطةً؛ من قبل بها فاز بمنحة، ومن لم يقبل بقي حبيس أحلامه ومحاولاته للتنفس خارج الماء العكر.

همس لي أحدهم أن شابًا موهوبًا، قدم سيناريو فيلم للمنحة، سيناريو جميل إنساني، يقدم فكرةً تمس كل سوري وكل إنسانٍ في العالم، بعيدًا عن الشعارات والهتافات واللهاث خلف الأسماء والأعلام والرموز، نجح الفيلم ونال المنحة، ولكن، بعد أن نفذ الشرط “كي تمر، عليك أن تثبت ولاءك؛ ولو بشريطة ملونةً بالأحمر والأخضر والأسود والأبيض، حول معصم البطل“.!

من البطل الآن؟! وأين هو؟!

أهو الشاب الذي خضع لمعايير المؤسسة العامة للسينما، ووضع قيدهم حول معصمه؟! أم هو ذاك الذي جلس بين جدران غرفته، يردد الشتائم ويبكي حلمًا، لا يعرف إن كان سيتحقق؟! أم هو الجمهور الذي ظل يقهقه ويرمي سهام سخريته لترتطم بجدران القاعة وفضائها؟!

من البطل في هذا الداخل الشاحب الملعون؟!

دلوني عليه فقط.. دلوني عليه.




المصدر