قضاة منشقون بين نارين: تهمتي “الإرهاب” و”الكفر”


بين مطرقة النظام واتهامه لكل من يعارضة بـ “دعم الإرهاب”، وبين سندان الجماعات التي تتهم كل من يخالفها بالعلمانية والكفر، انتهى الحال بكثير من القضاة المنشقين عن النظام السوري، إلى مصير مجهول.

حال هؤلاء القضاة يمكن أن نستشفّه من ملامح واقعهم الحالي، أو من خلال ما يستعيدونه من حوادث تلخص ما آلت إليه ظروفهم.

لا تغيب عن ذاكرة رئيس النيابة العامة السابق في محافظة إدلب، القاضي محمد نور حميدي، حادثة يستحضرها تلقائياً لدى سؤاله عن السبب الذي دفعه إلى الانشقاق عن قضاء النظام. يروي حميدي تفاصيلها وكأنها حدثت للتو، فيقول: “في منتصف العام 2012 وعندما كنت على رأس عملي في  النيابة العامة، كانت تأتينتا الضبوط من الأمن السياسي والأمن العسكري بشكل يومي، لكي نوقعها ونصادق عليها رسمياً، ولدى تدقيقي للضبوط ورد اسم لمعتقل من بلدة حارم بريف إدلب، أعرفه شخصياً، كان قد قضى تحت التعذيب في فرع الأمن السياسي، لمشاركته في التظاهر”.

ويضيف حميدي:” كان الضبط ينقل استجواب شقيق المغدور المعتقل أيضاً حول سبب وفاة شقيقه في السجن، وأدركت فور قراءتي لإفادته أنها ملفقة ومُنتزعة منه تحت التعذيب، لأنه يقول أن شقيقه مات نتيجة احتشاء في العضلة القلبية، وما أثار الاستغراب أن عناصر الأمن أرفقوا الإفادة بتقرير طبيب شرعي متعامل معهم يثبت ذلك”.

ويتابع “حينذاك كنت بين خيارين إما أن أن أوقع على الضبط، وأكون بذلك قد أخفيت الجريمة، أو أترك منصبي وأغادره بلا رجعة”.

بعد ساعات قليلة من تلك الحادثة، غادر القاضي محمد نور حميدي مكتبه دون أن يوقع، معلناً بذلك انشقاقه.

 

125 قاضٍ منشق عن النظام

بعد اندلاعها و اختيار النظام لمواجهتها بالسلاح، انضم  العشرات من القضاة السوريين إلى ركب الثورة السورية، مفضلين بذلك مقارعة النظام  سلمياً، عبر تأسيس محاكم مستقلة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة لملأ الفراغ، بدلاً من المشاركة في التغطية على الجرائم المرتكبة بحق المعارضين.

وفيما تغيب الإحصائيات الدقيقة عن عدد القضاة السوريين المنشقين منذ بداية الثورة السورية، فإن إحصائية غير رسمية حصّلت عليها “صدى الشام”، تشير إلى أن عددهم يتراوح بين 120- 130 قاضٍ.

و في هذا الإطار أكد عضو إدارة في مجلس القضاء السوري الحر، القاضي يوسف علو، أن النظام عزل كل المنشقين مستنداً إلى مبررين: الانقطاع عن الدوام، والقيام بعمليات إرهابية.

وأوضح علو في تصريحات لـ”صدى الشام”، أن النظام لجأ إلى هذين الذريعتين، بسبب الإجراءات المعقدة التي يستوجبها القانون السوري، قبل عزل القضاة، من تشكيل لجان وما شابه.

 

مطرقة الإرهاب

لم يكتفِ النظام بتعميم اسم القاضي محمد نور الحميدي على الجواجز الأمنية بعد توقيعه وعدد من القضاة على بيان يدين أساليب النظام في التعامل مع المتظاهرين في بداية الثورة وإعلانه عن انشقاقه فيما بعد، بل قام أيضاً بفصل ابنه الذي كان طالباً في جامعة تشرين.

يقول حميدي، “تركنا لهم الجمل بما حمل، واتجهنا للعمل في القضاء في مناطق المعارضة، لكن النظام لم يتركنا وشأننا”.

ويضيف ” فيما بعد تم عزلي وعشرات القضاة الآخرين بمرسوم رئاسي، في إطار ما قالوا إنها “حملة سورية للاصلاح القضائي”، بدون التحقيق معنا.

ويوضح “مع أن القرار صادر في أواخر العام 2015، إلا أنه لم يصلنا إلا منذ أيام قليلة، بسبب تعمد النظام التعتيم على مثل هذه القرارات التي تضر سمعته”.

ويتساءل حميدي، “كيف أثبت النظام عدم نزاهتنا ومشاركتنا بأعمال إرهابية بدون التحقيق معنا؟”. ويستدرك، “على العموم ليس هذا الأمر بجديد على النظام”.

 

 

سندان التكفير

لم يكن النظام الجهة الوحيدة التي أساءت معاملة القضاة المنشقين، وكما اتهمهم عبر إعلامه بشكل شنيع، وُجهت إليهم التهم أيضاً من جانب بعض فصائل المعارضة من قبيل “العلمانية والكفر”، بسبب تطبيقهم للقانون السوري في المحاكم التي شكلت في المناطق المحررة، وفقاً للقاضي حميدي.

يشرح حميدي ذلك بالقول “بعد تركنا للنظام شكلنا برفقة الزملاء مجلس القضاء الحر، وبدأنا العمل بمحكمة في مدينة حارم بريف إدلب، إلى أن ظهرت الجماعات المتشددة وقامت بإغلاق كل هذه المحاكم، بحجة تطبيقها للقوانين الوضعية والعلمانية”.

الأمر نفسه ينسحب على القاضي، يوسف علو، الذي أشار أيضاً إلى محاربة الكثير من فصائل المعارضة للقضاة المختصين، وقال: “بعض القضاة المنشقين لم يستطيعوا العمل مع فصائل المعارضة بسبب الفوضى، وبعضهم الآخر لم تتقبله الفصائل وضيقت عليه إلى أن اضطر لمغادرة البلاد”.

وهنا تحدث علو عن تجربته القضائية في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، فقال “هناك فجوة كبيرة بين القضاء الذي من المفترض أن يكون مستقلاً، وبين واقع المحاكم على الأرض، ومن الثابت أن كل فصيل يريد أن تكون المحكمة تابعة له.. حاولت لكن لم أستطيع العمل معهم”.

 

 

 أين هم القضاة الآن؟

يجيب القاضي محمد نور حميدي على هذا السؤال قائلاً: “قسم كبير منهم غادر الأراضي السورية، بعد التضييق عليه، إلى الدول المجاورة وبلدان اللجوء، وقلة منهم لا زالوا داخل الأراضي المحررة”.

من جانب آخر يلفت حميدي إلى عمل قضائي مؤسساتي يصفه بـ”الإيجابي” في ريفي حلب الشمالي والشرقي، أو ما يسمى بمناطق درع الفرات، في إشارة إلى محكمة جرابلس.

ومطلع العام الجاري أعلنت القوى المدنية والعسكرية في مدينة جرابلس، عن تأسيس أول محكمة حرة منظمة، تعتمد على الشرطة الحرة كذراع تنفيذي، وليس على العسكريين.

وتعلقياً على ذلك، أكد القاضي يوسف علو أن المحكمة عينت حتى الآن خمسة قضاة من المنشقين، لافتاً إلى تطبيق المحكمة للقانون السوري، بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية.

ورغم إبدائه لبعض التحفظات على طريقة تأسيس المحكمة واختيار القضاة من الجانب التركي، إلا أن علو قال “لكن برغم هذا، فالمحكمة بادرة جيدة، وهي خطوة في الطريق الصحيح”.



صدى الشام